وضعف الإنسان لا حد له فلا حد لما يستعمل من الكلام المبهم الذي يحمل ما شئت أن يحمل، ولولا ذلك لما صح أن تكون الفصاحة هي نفسها وسيلة من وسائل التعمية في محاورة الخصوم.
قال "الشيخ علي": أما الكلمة التي أشرت إليها، فهي لشمول معناها الطبيعي وإبهامه كأنها لغة للنفس الإنسانية أين وجدت، ولكن ليس للإنسان أن يفسرها، بل هو يتعلل بها ويتعلق بها ويتعلق عليها ويعلم أنها كذا خلقت، لأنه قدر معناها قدرة على قياس لا يبرح يطوي هو من طرفه ليعرف ماذا يبلغ وما هي مسافته، ويعد القدر من طرفه الآخر ليفسد عليه ما عرف.
فهي كلمة يستوي عندها خطأ الإنسان وصوابه، ولهذا يراها واقعة في موضعها وفي غير موضعها، ولا معنى لها عند هذا الإنسان إلا أنها اتجاه حركة القدر، وهي الحظ.
الحظ يا بني كلمة غامضة غموض النفس الإنسانية، يتعزى بها أهل الأرض جميعا ويظهرون فيها إيمانهم الفطري الذي لا بد منه للقلب، فما دام هذا التركيب على غموضه المعجز بحيث لا يمكن أن يعرف بجملته، وما دام هذا الإعجاز وضع حيرة للعقل، فلا بد في اللغات من ألفاظ تصور كل ذلك وتصفه على تلك الوجوه العجيبة، بحيث تكون اللفظة إقرار من الإنسان وإن جحد، وصورة لإيمانه وإن كفر.
وهذه الكلمات من أوضاع الإلهام فلا تخلو منها لغة من اللغات، وهي بعد في تفاوتها وظهورها كدرجات الإيمان من أدناها إلى أعلاها، فمن لم يؤمن بالله وجد في لغته لفظا للقدر وهو الإيمان بعمل الله فإن كفر بالقدر اعترضته نفسه بكلمة الأمل وهو الإيمان برحمة الله، فإن جحد هذه اعترضته طبيعته الإنسانية بكلمة الحظ وهو الإيمان بقدرة الله، ولا أحسب أن في الأرض رجلا يكفر بهذه الأربعة جميعا! ومن ههنا كان الكفر نفسه لا يخلو من الإيمان، وكان الكافر كأنه إنما يؤمن من أضعف موضع في الكون، وما أشبه الإيمان بجبل راسخ يحمل الناس كافة، غير أن المؤمن يصعد مرتقيا من جهة والكافر ينزل منحدرا من الجهة الأخرى!.
والعجيب أن كلمة الحظ نفسها يضعف معناها ويقوى بعكس ما يكون في الإنسان من قوة الإيمان وضعفه. فالرجل المؤمن القوي في إيمانه بالله قلما يفهم من هذه الكلمة إلا أضعف ما تريد النفس منها، فهي تبعثه على تذكر قضاء الله والاستكانة لقدره والتعزي عما فات بما لا يزال في الغيب، ولكنك واجد ضعفاء الإيمان لا يفهمون منها إلا القوة المسخرة لحوادث الدنيا، ولا يريدون بها تسخير هذه القوة في منافعهم، ومن ثم تهيج الكلمة في أنفسهم من معاني التسليم والاستكانة، وهذا عجيب من طباع الناس لولا السبب الذي كشفته لك! وما أراك تحسن معرفة هذا السبب ما لم تعرف حقيقة ما أريد بكلمة الإيمان، فلست أريد بها ذلك المعنى الذي يتعاون على تمثيله البناء والنجار والحداد وغيرهم من أهل الصناعات، حين يشيدون المساجد والبيع والصوامع ونحوها من أمكنة العبادة، فإن هي غلا مظاهر الدين الاجتماعية لا غير، ولا يمكن أن يحصر الضمير الإنساني بين حائطين.
وإنما الإيمان هو ذلك المعنى الذي يلقي على روحك السكينة لأنها متصلة بالله، وفي ضميرك المحبة لأنها متصلة بالناس، وهو ذلك المعنى الذي يعلمك ما أنت ممن حولك، وما حياتك ممن وراءها، وهو ذلك الاعتقاد الكبير الذي تصغر عنده الحياة بما فيها من الخير والشر، وتهون بما فيها من النفع والضرر لأنه قائم على الفكر الذي هو بقية ما نفخ الله من روحه في الإنسان الأول فلا يضعف أبدا ما دام في الكون قوة، ولا يفتقر أبدا ما دامت الطبيعة غنية بجمالها، ولا يسقط أبدا ما دامت السماء قائمة، ولا يموت أبدا ما دامت الحياة باقية، ومتى خضعت له استحال عليك أن تذل لصغائر الحياة، لأنه هو لا يذل ومن مظاهر تلك العظمة التي تكون في الأبطال فيستهينون بالحياة إذ هم أهل الموت، وفي العظماء فيتنزهون عن الدنايا غذ هم أهل الأخلاق، وفي الحكماء فيزهدون في حطام الدنيا إذ هم أهل النفوس.
ومن ثم كان الإيمان الصحيح حرية صحيحة، لأنه يعصم من ضروب الذل كلها، وكان منفعة خالصة، لأنه الحد القائم بين النفس وشهواتها، وكان نافعا، لأنه العقل السماوي الذي يهم الإنسان حكمة كل مصيبة، أو يلهمه الثقة بالحكمة التي يجهلها، ولو أن للفضيلة عبادة لكان لها من أخلاق كل رجل صحيح الإيمان مسجد تعبد الله فيه!