.. فإن آلام النزع وإن لم تكن هي الموت ولكنها أشد منه، حتى إن الموت ليكون راحة منها، وقد مد الله في نزع الكونت مداً طويلاً، فكان يقظان العين نائم الروح، وكأنه مقبور في جلده، وكانت زوجته لا تألوه موتاً. فليس يراه أحد إلا يطن أنه لما به، ولكنه لا يموت، لأن أيامه كانت بعض ما كتب في الأزل من تاريخ هذه البائسة، وقد حمله الله على الأمل، والأمل معطية دائبة لا تكل ولا تنقطع ولو ذهبت تقطع مسافة ما بين الضدين لتجمع أحدهما بالأخر، فما يزال يحسب أن لزوجته فيئة بعد شرة الصبا، وأن تقادمه في الهرم وتقدمها إليه سيصلحان ما أفسد الدهر منهما جميعا، وليس في الناس أحمق ممن يدفع نفسه إلى ما يطن، في حين تدفعه نفسه إلى ما يستقين!.
أما هي فرأت أن لا سبيل إلى انهزامها أو تراجعها بعد ما أنزلت أخلاقها في المعركة، كأنها ماتت قبل أن تموت فليس يضرها أن تقع في هذه المعركة هالكة، وليس ينفعها أن تخرج منها حية، وكل شيء تستدرك منه الحيلة، إلا ما أفاتت المرأة من شرفها النسائي، فإنه إن فرط منه فارط لم يستدرك، فبسطت عنانها في يد الأقدار وانطلقت على أثرها صاغرة! وقطع الفلك في دورته عشر سنوات حتى تفرى الليل عن صبح لم يشهده الكونت، فترك لامرأته ما جمع، وترك فيها ذلك الموت الحي، وتركها في تلك الحياة شجرة مر داء غير أن اللذات لم تبق عليها بعده، فقد لا تقتل الآلام إذا أسرفت على النفس ولكن اللذات لابد قاتلة، وكأن الطبيعة فرضت على الإنسان أن لا يلذ بالعيش إلا حيث تكون لذته اختلاسا، فإنما ركب على أن يشده ما يؤلمه، ويبني منه ما يحسب أن يهدمه، فإن هو حمل نفسه على لذتها، وأطلق لها ما بين هواه ورأيه، فقد أراد لبنيته الضعيفة وضعا ليس في هندسة الحياة، فلا تترك فيه اللذات إلا أمراضا، ولا تحمل منه الأرض إلا أنقاضاً ... ، ولو لم تكن هذه اللذة المسرفة سببا إلى الموت، لما ركب في غريزة الإنسان كره الموت من حب الاستمتاع بها، والحياة في عمليتها الجراحية المؤلمة لا تحز إلا بأسلحة الآلام الحادة واللذات الحادة! وبيع ذلك القصر وما ضمه، وكان فيما يحتويه بعض رفرف من الكتب يباهي الأغنياء بتنسيقها ليظهر من ألوان جلودها رسم ليس في الحائط ... ، فاشتراها أديب تأدى إليه خبر الكونت وامرأته، فإنه ليقرأ منها ذات يوم في كتاب يصف البأساء والضراء من هموم الحياة، إذا ندرت ورقة كانت بين صحفه فالتقطها فإذا فيها تعتلجان بين هذين السطرين: الفقر خلو من المال، ولكن أقبح الفقر الخلو من العافية!. "فكتور".
والغنى أن تملك من الدنيا، ولكن أحسن الغنى أن تهنأ في الدنيا ... ! "لوجيز".
قال "الشيخ علي": وإن في نفسي أشياء من كلمة بين الكلام قد ضل بها الناس ضلالاً بعيداً، لا أعرف كيف استحدثت ولا من أين انصبت على الدنيا، وقد خرج الناس من أن يهتدوا فيها إلى حقيقة مخلصة، إذ لم توضع في لغاتهم موضع شرح وإبانة، ولكن موضع غموض وإبهام ...
ويا عجبا للإنسان! كيف اهتدى إلى التعبير عن المعاني الإلهية التي يكون المعنى الواحد منها تاريخا طويلا لقدر من الأقدار المستكنة في غيب الله من لدن يقضى إلى يوم يقع، وكيف تلقى في نفس هذا الإنسان معاني الغيب فيردها ألفاظا يحمل منها السماء بأفلاكها على بضعة أحرف!.
على أن أعجب ما فيه يعبر عما تناله قوته بألفاظ صريحة خالصة لا لبس فيها ولا اختلاط، فإذا انتهى إلى ما يضعف عنه أو يعجز دونه أشار إليه بحروف مبهمة لا يكون لها في نفسه من الدلالة الغامضة أكثر مما يدل المجهول على أنه مجهول، فالإنسان متى أحس القوة رأيته كأنما يحاول أن يسمع السماء بطنين ألفاظه المكشوفة عن معانيها أنه موجود على الأرض، ويحاول أن يظهر للأرض بصراحة هذه الألفاظ أن له إرادة تعمل مع الأقدار في تسخير الطبيعة، ولكنه عند العجز والضعف، وعندما يتخيل صفات من القوة الأزلية ولا يحسها - تراه يرسل الكلمة الخفية التي تشير إلى كبريائه بشيء من الصراحة اللغوية المحدودة، وإلى ضعفه وعجزه بإبهامها المطلق فما أن تزال في هذا الوجود الغوي من المعنى على وجه التعيين والنص، حتى يقع بها قدر من الأقدار فيكون هو معناها.