ولا يصح إيمان المرء حتى يتبين لنفسه طريقا إلى ربه، فيرى كأن قطعة من السماء في باطنة تضيء له الحياة، ومتى عرف هذه الطريق وامتد بها ضميره إلى حيث يتصل بجلال الله، فمن هذه الطريق نفسها يرد مصائبه على الغيب كما جاءت من الغيب، لأن للقدر طريقين: فواحدة يندفع منها، وهذه لا تعرف إلا بعد أن تقع الواقعة فتدل عليها بنفسها، والأخرى هي التي يتصرف إليها القدر في حركة الدهر، وهذه لا يوفق إلى معرفتها غير السعداء ومن كتب الله لهم أن يكونوا مظهر حكمته أو مظهر حمده.
فقوم يجدونها في إيمانهم الوثيق، وآخرون يصيبونها في حكمتهم البالغة والمؤمن إنما هو صورة قلبية من الرجل الحكيم، والحكيم إنما هو صورة عقلية من الرجل المؤمن، فإذا نزلت بأحد هما المصيبة وبلغت منه ما لا يبلغ الصبر، فتح لها طريق السماء في باطنه فيبصرها كأنها مدبرة، والمصيبة متى وجدت كالحياة متى ولدت: لا محل للعقل أبا في أولها، فيتبين حكمة الله منها ويرى حينئذ كيف تنقح يد الله في تاريخه.
وما أرى المصائب في نظام الكون إلا حركات ظاهرة تسير بها نعم مجهولة لا تزال ومن وراء الغيب، وكثيرا ما يكون من هذه المصائب ما ينبه الله به الناس من غفلاتهم حتى لا يقعوا في أشد منها إذا تركوا لما هم فيه، فليست النازلة هي المصيبة ولكن المصيبة من جهلنا وضعفنا، ألم تر إلى كل نعمة مع الجهل والضعف كيف تحمق وتضعف حتى لا تكون مع صاحبها إلا قريبا مما تكون المصيبة مع صاحبها؟ قال "الشيخ علي": والحقيقة يا بني أن من لم يكن كفؤا لما يناله هلك بما يناله، فالحظ توفيق، والتوفيق أن لا يكون لك إلا ما تصلح له فأنت بذلك مطمئن، ومن ثمرة الاطمئنان فرضي فاستمتع، فهذا هو ذو الحظ وإن كان عنده لم يصب إلا قليلا ولم يطمئن إلا من ولم يرض إلا من عجز ولم يستمتع إلا بأهون المتاع.
إن كل امرئ يريد لنفسه لا لسواه، وإن أول التوفيق أن تريد ما يصلحك وأول الخذلان أن تريد ما لا يصلح لك، وما الطمع إلا فقر حاضر ولو كان طمع الغنى.
وإن هذه النفوس لتبلى من طول ما يلبسها قدر ويجعلها قدر، فلقد رأيت غير الموفق حين يجور في إرادته، ويضل في مسعاته، ويلتمس من الغيب ما يقدر لنفسه دون ما قدرت له نفسه- لا يبرح يكد ويسعى، وكلما لبس حالة من دنياه فاضت عليه فخلعها أو ضاقت عنه فخلعته، ولا يزال ذلك من دأبه ودأب القدر معه حتى يهن ويضعف ويصير إلى البلى في نشاطه وحزمه وفي طماحه ورغبته، وقد أنفق من حياته ما لا يرد في ابتغاء ما يدرك، وهذا كله هلاك بطيء يأتي على العمر، والعمر بمقدار الزمن الذي تعيش فيه، ولكنه مقدار ما توفق من عيشك.
وهل سمعت برجل كان يحفر قبره منذ عقل معنى الموت وقد نذر أن لا يحول عنه، ثم لم يزل يوسع الأرض من عمله ويفسح في جوانب هذا القبر وعمر طويلاً وغبر على ذلك دهره، حتى أصبح قبره يأكل القبور أكلاً ثم أدركه الموت فانطرح فيه رمة بالية فإذا هو لا يملأ من جوفه عمل يوم واحد مما كان يعمل، وبقيت الحفرة كأنها فم مفتوح تصيح منه الأبدية: أين الميت العظيم الذي أعد كل هذا لجيفته ... وما بال هذا الساعد وما بال هذا المنكب، وفيم كان ذلك العمل، وما هذا النبوغ الميت الذي ضاعت فيه الحياة ولم يعظم به الموت؟ ...
إنك إن لا تكن سمعت بهذا الرجل فلقد رأيت كثيراً من مثله يعملون للحياة عمل ذلك الأحمق بعينه للموت، فهو لم يمت بمقدار ما أعد لنفسه، وهم لا يعيشون بمقدار ما جمعوا لأنفسهم، ومنهم من أضاعه في غير حاجته، والعمر لا يستخلف، وكلا الفريقين طرف من قياس واحد في الخذلان وإن كان أحدهما يبتدئ من عكس الجهة التي يبتدئ منها الآخر.
لا يوجد على الأرض من يملك شيئاً في الأرض غير محدود، ولكن ما من أحد يكن طعماً محدوداً في نفسه، ومن هنا كثر ما يسميه العامة "سوء الحظ" وإنما هو سوء التوفيق.