المساكين (صفحة 47)

قال "الشيخ علي": كذلك صارت لويز مع زوجها وانحازت إلها طبيعته الغالبة فكانت قوية به وبنفسها وكان ضعيفا بها وبنفسه.

ألا وإن أخلاق المرء إنما هي أعصاب أعماله، فانظر ويحك ما عسى أن يكون في البغض أشد من أعمال امرأة أبغضت بعقلها وبقلبها، ولحاضرها ومستقبلها، وصارت حياتها كلها من الشر والسوء كأنها لعنة يصبها الله على رأس هذا الهرم؟.

وكذلك اندمج في إرادتها كما اندمج الثعلب في فروته الجميلة الناعمة: ترميه بالنظرة حين يتكلم فتقف الكلمة بين حلقه والوريد، ويجيئها وقد أجمع النية أن يأمرها فلا تأخذه عينها حتى يسألها ما تأمره، ويجهد أن تعلم أنه زوجها ثم ينقلب وهو يتمنى لو تعلم أنها زوجته، ويوسع قلبه عزما أن يفعل ويفعل، ثم يراها فيخشى أن تكون اطلعت على أن في قلبه شيئا من العزم!.

وهو لا يعلم بزعمه كيف أنكرته وكيف تغيرت عليه وكيف تنكرت له، ولكنه يريد أن يسأل كل شيء عن ذلك إلا وجهه ذلك الوجه الذي جعله الحب أقبح ما عرف من دائه، وأشد ما خاف من أعدائه، وما أفضى إليها مرة وهو يحمله إلا عرف أنه من ذنبه في حبها، وأنه من عذرها في بغضه، فيطرق إطراقة يتكلفها ويحسبها تشفع له عندها، لأن فيه ذل الشيبة، وألم الخيبة، وشدة الهيبة، ولكن وجهه يظهره وقتئذ مظهرا ليس في معنى السماجة أسمج منه، إذ يكون كاللص الذي لا ينكر على ملأ الناس أنه سارق، وهو مع ذلك يحرص على أن لا يؤخذ منه ما تجشم في سرقته، وقد عرفت المرأة أنها لا تغمز منه إلا مكاسر عظمه الواهن، ولا تطأ منه إلا كل مفصل مرضوض، ولكنها عرفت كذلك أنه ظالم لنفسه، إذ حملها ما ليس في طاقته، وظالم لها! إذ أرادها على ما ليس في طاقتها، فهو ظالم أشبه بمظلوم، وما مثله في حبها إلا كمثل الفراشة، لا ترجع دون المصباح إلا أن تخالط ناره، فما تحتال من حيلة غلا أحست منها حتفها وتلفتها، غير أنها لا تزال تنزع من ذلك ما ينبغي أن تنزع عنه، وكلما تهافتت انحص جناحها من ناحية، ومع هذا كله لا تسكن مادامت فيها حركة تنبعث.

وما من شيء إلا وقد جعل الله فيه النفع والضرر، فمن التمسه على حالة منهما لم تؤده إلى الأخرى، وما تغني الإنسان معرفة الأشياء على حقائقها إلا إذا عرف مع ذلك فروق ما بينها، وتبين الحدود الفاصلة بين الشيء والشيء الأخر، وبين الحالة والحالة الأخرى في الشيء الواحد، فقد يكون الإفراط من الدواء داء مع الداء، وقد يجتمع من طعامين بلاء لا يكون من جوع يومين!.

والمرأة هي في حاجة الرجل غليها، ولكن كل امرأة تكاد تكون جنسا بعينه في حاجتها إلى الرجل، فمن ههنا أحبت وأبغضت.

ولو أن هذه المرأة مما تنبت الأرض وتسقي السماء لقد كانت تصلح مع كل رجل كما تصلح لكل رجل، ولكن لها قلبا، وحسا مع هذا القلب، ونفسا مع هذا الحس، ورقة مع هذه النفس، فهي إن لم تحب الرجل من هذه الجهات الأربع لا تكون قد أحبته ذلك الحب الروحي العجيب الذي يوصف بأنه حب المرأة.

قال "الشيخ علي": وقد رأت لويز أن زوجها خرب من كل جهاته، وأكبر ما فيه أنه كالأرض الفضاء: إذا ضرب عليها سور وجعل في هذا السور باب، ووضع على هذا الباب قفل، فما غناه العريض، وما له الكثير، ولا اسمه في أهل الغنى غلا كتلك الحدود المضروبة على ما وراءها من الفراغ والفضاء.

وكانت ترتاع لذله وترق لخضوعه، وتود لو استطاعت أن تراه غير من هو فتعرفه غير ما عرفته وتجزيه غير ما جزته، ولكنه لم يكن يجيئها أبدا إلا بادي المقتل، ولا يريد مع ضعفه أن يعدل عن محزنها، وأماتت من نفسه نزعة غلا انبعثت فيها نزعة أخرى، كأنه رأى في غضبها جمالا لم يره في رضاها، وأحس من ثورة شبابها وفورة غيظها ما يعالج منه خمود الهرم وبرد الموت في عظامه، فاعتاد منها ما تجزيه، واعتادت منه ما يخزيه، ومرا على ذلك دهرا مات فيه الوفاء، ومرض الحياء، فإذا تاريخ هذه المرأة لعنات، وإذا عرض هذا الرجل كله طعنات، وأصبحت ملكة عليه وأصبح معها كما قال ذلك الحكيم: "من أراد مصاحبة الملوك فليدخل كالأعمى وليخرج كالأخرس! ".

وبعد

طور بواسطة نورين ميديا © 2015