ولو لم يضرب الله على بصره لعلم مما تشرع الطبيعة أن أحق الناس بالخيبة رجلان: رجل وجد قبل زمنه فلا يحسن أن ينفع أو ينتفع، ورجل أتى بعد ومنه فلا يحسن أن ينتفع أو ينفع! متى كان الرجل حقوقاً وكانت المرأة واجبات لا غير، فقد خلا الرجل من العقل وخلت المرأة من القلب وخلا الاثنان من هذا المعنى الروحي الذي يسمى الحب، فإن لم يستطع ذلك العاشق الهرم أن يسترد لنفسه الصبا الذاهب حتى تحبه تلك الحسناء طائعة، فليسترجع لتاريخ الأرض وحشيته الأولى حتى تلوذ به تلك المرأة كارهة! ويل للإنسان من هوى نفسه فلولا هذه الحماقة فيه لما وجد على الأرض خطأ، لأن كل إنسان حين يخطئ فإنما يريد حقيقة من الحقائق غير أنه يجعل مركزها في رأسه ولا يعتبرها إلا من هناك، مع أن مركزها في العالم.
قال "الشيخ علي": كل خطب عظم مدة هان بعدها، إلا خطب المرأة فإنه متى عظم لا يزال يعظم، وما رأيت في أصناف البلاء كالمرأة السلطة إذا هي استكلبت فكأنما جعل الدهر الجائر أيامها خطاً من خطوط مداره، واتخذ من دار زوجها متحفاً ثم أودعه تلك المجموعة من آثاره ... ويا رحمة لهذا الزوج! فهو كلما خرج من بيته خرج خزيان يتنقب، وكلما انقلب إليه انقلب خائفاً يترقب، ولا تزال تعرف في عينه نظرة مغلوبة وأخرى مسلوبة، وفي قلبه مصيبة مستقرة وثانية مجلوبة، وترى على وجهه سمة استخذاء كأنها مسحة استهزاء، ولروحه ظلاً على فمه كأنه ظل النخوة الهاربة من دمه ولا يزال مع امرأته المكابرة كأنها ذنب وكأنه ندامة، وقد جمعت عليه الدنيا والآخرة فكأنه من خوفها في موت ومن لسانها في "قيامة"..
وما في الله خلق أعظم من المرأة، فهي طبيعة وحدها، غير أنها الطبيعة الدقيقة الحس، وليس يدرك الرجل حقيقة نفسه قبل أن يخلطها بنفسه، فإذا رأيتها خاملة مغمورة، أو ساقطة مجزورة، أو ميتة في الأحياء مقبورة فلا ترين أنها مغلوبة للرجل ولكنها مغلوبة لإحساسها، وقد وفر الله عليها من القوة ما شاء ولكنه غمز منها موضعاً دقيقاً فخرجت بحيث تراها أقوى الأشياء وترى هي نفسها كأن لا قوة فيها، وهذا سر من نظام الطبيعة، فإن أشجع الناس الذي لا يخاف شيئاً يخاف أشياءً كثيرة من نفسه، فلولا أثر يد الله في إضعافها ما قامت للرجل معها قائمة.
وهذا الموضع الذي أسلمها ضعيفة مستخذية إنما هو جهلها بتصريف إحساسها، فليست القوة إلا شيئاً طبيعياً في هذا الوجود كائنة ما كانت، وإنما الشأن كله في العلم بطريقة استعمالها، وما من رجل يداري المرأة نوعاً من المداراة فترضى عنه وجهاً من الرضا، إلا رآها في يده أضعف ما خلق الله، هينة لينة سمحة مطمئنة، إن كانت دون الملائكة فهي فوق الناس، إذ هو إنما يستولي على إحساسها فيأمن أن تصرفه في غير مرضاته ومحبته، ومن ثم تصبح كأنها صورة من إرادته وكأن في نفسها نفسه.
فإن جهل الرجل كيف يداريها، وانقطعت الأسباب المختلفة بينه وبين رضاها، ولم يكن أهلاً منها لما هي أهله منه استوقد إحساسها وبصرها كيف تناله ومن أسن تأتيه، فابتلي منها بفتنة ما تهدأ وقدتها، فما السابح في البحر إذا أراد أن يقيد الموجة العاتية بالحبال، ولا المصروع إذا حاول أن يدع بيده ما أفزعه من جن الخيال، ولا الطفل يبتغي أن يمسك القمر في الماء، ولا المجنون يتطاول فيقتلع النجم من السماء- بأقدر ممن تبغضه المرأة إذا زعم القدرة على إرغامها، وتصريف زمامها، ومن تمضغه المرأة إذا زعم القدرة على إسكانها، وتصريف بركانها، ومن تحقره المرأة إذا زعم القدرة على ردها، وإرجاعها دون حدها، ومن تصول عليه المرأة إذا ادعى القدرة على إسقاطها، والقوة على التقاطها!.
فليس يعجز الرجل في سلاطة المرأة إذا هي سلطت عليه ما يكون من حدة جنانها، وشدة عنانها، وشرة لسانها، فكل هذه وأمثال هذه إنما هي ضروب مما تحاول من إظهار عظمتها الطبيعية المغلوبة، ومن أجل ذلك قلما كانت المرأة السليطة إلا غالبة، إذ هي نفس منفجرة.
ولقد يعجز الإنسان أحيانا كثيرة أن يكون نفسه، غذ لا تنقاد له الطريقة التي يغلب بها على الحوادث أو يجاريها أو ينبه لها الحذر، ومن ثم ينكر نفسه كأنها غير التي يعرف من قبل، ولكن المرأة متى ثارت لا تعجز أبدا أن تكون نفسها، وما نفسها إلا أعظم ما في الخليقة من الخير والشر!.