لقد أجمعت المقاييس بين أقطار الأرض، وطوت ما بين الأرض والسماء، وداخلت ما بين أنجم السماء بعضها من بعض، ولكن أية أداة تعين لنا درجة الإحساس بين نفس عاشقة مدنفة تشهد آلام نفس معشوقة، وبين عيني شاعر غزل وثاب الخيال تنظران في عيني امرأة جميلة باكية، وبين ألم جامد جاف يضطرب في نفس الرجل، وألم سائل متدفق تضطرب فيه نفس المرأة ... ؟ إن هذه الأنفس إنما تشعر بمقدار ما فيها من الإحساس لا بمقدار ما في الحقيقة من مادة الشعور، وكأي من رجل أبله متغفل يدور مع الآلام والأوجاع دوران الغبار في العاصفة، فإذا رأيته توجعت له وداخلتك الرقة عيه وثارت نفسك من أجله ثورة السخط على هذا الاجتماع الإنساني وتمر بالرجل ثم تنساه، ولكن هنا طفلة صغيرة قريبة العهد بالغيب قد عينيها كما تتحير الألفاظ بين شفتيها، وقد ساورها الخوف، وتوثبت نفسها فزعاً لهول ما هي فيه، وجعلت عيناها تتوسلان إلى الناس بالبكاء، ولسانها يتلجلج بالألفاظ مرتعدة كأنما ينتفض عليهن قلبها الصغير. وهي في ذلك لا تبرح تتمثل أبويها فتضطرب اضطراب الفرخ إذا سقط من وكره ولم ينتهض، وترى أن المصيبة قد انحصرت فيها وحدها من دون الناس، فتبكي بكاء تنشق له، ثم تعود إلى التوسل بعينيها الدامعتين وبألفاظها المتلجلجة فانظر وأنت أبو مثلها ما عسى أن تنزل بك من الحسرة ويتغشاك من الهم إذا رنت إليك هذه الطفلة من وراء دموعها تسألك أن تدلها على بيت أبويها الماثل في رأسها الصغير، وهي تحاول بذلة ومسكنة أن تنقله إلى نفسك وتبنيه فيها بألفاظها وإشارتها الضعيفة لتهدي أنت إليه؟ فالمصيبة ليست مصيبة بمادتها ولكن بما يقابل هذه المادة من نفوسنا، ومن ثم فهي لا تؤثر فينا بنفسها ولكن بالكيفية التي نقابلها بها.
قال "الشيخ علي": ثم سكنت "لويز" هنيهة لذكرى أيامها الأولى وهي تعلم أن لا رجعى لها، فقد استيقنت أن هذا الغنى ضرب بينها وبين الفقر حجاباً ولكنه رفع بينها وبين الشقاء حجاباً آخر كان ذلك الفقر وحده هو الذي يمنعها منه، وكأن القدر لما اختط لها التعسة رسم هذه الخطة بقلم من ذهب ...
واستشرقت نفسها لخاطر غريب ألم بها فأضحكها على ما بها من الهم، فقد أحضرت خيالها ذلك الحبيب الأول في شبابه الغض، وقوته الثائرة، وفورته العنيفة، ونشاطه المهزوز، وإرادته على حب امرأة في أرذل العمر- وهو عمر "الكونت"- يلوح وجهها في العين كما تلوح القفار، ويمتد أنفها بين الوجنتين كأنه حجر في أحجار، ويضحك ثغرها الأدرد فلا تشك أنه في تلك الصحراء"غار" وقد ثابرت عليها الأوجاع والأمراض، حتى أصبح جسمها بين يدي الموت كالخيط بين شقي المقراض!..
... ثم جعلت ذلك الحبيب يتزوج منها لمالها وغناها وقد أصاب ع عندها ملء أطماعه ذهباً وفضة، ثم وصلت بين شعلة فؤاده الملتهب هوى وشباباً وبين هذا الجسم الفاني الذي يشبه حطام اليبيس، ثم أرادته على أن يعتقد أنها "السكرة" التي وضعت في كأس حياته لتحليها، ثم نظرت لترى ما يكون من أمره وأمرها في الحب حين لا يكون الحب إلا مراغمة وإكراهاً، فإذا الحلم قد انهال، وإذا الوهم قد استحال، وإذا الشاب لا يحب تلك المرأة ولا في الخيال، فجهدت أن تذكر في تاريخ الناس من يكون قد امتحن بمثل هذه المصيبة وصبر لها كما يصبر من ذات نفسه على آفة أو عاهة أو مثله، فأبى عليها الواقع أن يخرج لها مثالاً واحداً ...
... فكدت ذهنها في تصور هذا الحال وتقليبها على وجوه مختلفة، فلم تستقم لها صورة صحيحة، وشبت عندها أن حب شاب قوي في الثلاثين لعجوز هالكة سبعين هلكة.. أمر يكاد يكون في استحالة الجمع، كطرح السبعين من الثلاثين في حساب العدد!.