المساكين (صفحة 44)

وعجبت أن يستأثر الرجل وحده بهذه الأنفة ويلتمس لنفسه في هذا الباب ما ينكر على المرأة أن تستنكره، كأن هذه المرأة عجماء لا تبالي من صاحبها إلا العلف، ولو انتهى بها إلى التلف، وكأن كل امرأة إنما هي اسم، على جسم، فليس على الرجل إلا أن يختار اسماً ثم يثبته في وثيقة الزواج بعد أن يساوم عليه، أو كأن المرأة بلغت من الجفاء وضعف التمييز بحيث لا تأبى أن تتخذ أعواد فرشها، من أعواد نعشها، وأن تقيم لها قبراً في البيت، وتنظر كل صباح في وجه ميت، وإلا كم من فتاة كالقمر أخفاها نهار المشيب، وكم من عروس للحب زفت إلى غير حبيب، وكم من وجه صبيح، يقبله ثغر قبيح، وكم من كعاب، سال عليها اللعاب ... وكم من حسن هو رمز الحياة قرن به الموت رمزه، وكم من قد أهيف كالألف لا يرى إلا شيخاً أعجف كالهمزة ...

وهنا انتبهت "لويز" إلى زوجها المتهدم الذي هو همزة القطع، وإلى تصابيه المضحك وحماقته العمياء وحبه الأخرق، فانتفضت من الغيظ وكاد بعضها يحطم بعضاً، وجعلت خواطرها تنبض في رأسها كلمع البرق وأخذت تلتمس الوسيلة لرد هذا البلاء عنها أو مدافعته، بيد أنها كلنا ابتدأت فكراً انتهى بها إلى قولها: ما عسى أن أصنع؟! هي لا تفكر إلا فيما ينبغي أن تصنعه، ولكن الفكر يفضي بها إلى هذا السؤال بعينه، فكأنها من الهم والحيرة منعزلة عن نفسها، وقد نفر منها فكرها وقلبها وحظها ولم يبق معها غلا روحها المعذبة، وهي كذلك بينها وبين زوجها وبين القدر!.

ولبثت زمناً لا تجد من رأيها إلا قطعاً وأشلاءً، حتى لمحت من نافذة القصر مركبة تدرج في الطريق، ورأت سوط الحوذي يتلقى الأمر منه إلى الجوادين فلا ينزل عليهما إلا انطلقا ملء العنان، كأنما يحاولان الهرب منه ولا يعلمان أنهما يهربان به؛ فرثت المسكينة للبهيمتين، ثم كأنما حشرت لها كل مركبة على الأرض في صعيد واحد، فلم تذكر أنها رأت قط سائقاً ليس في يده سوط ما دام بين يديه حيوان ... ! وظلت واجمة عند هذا الخاطر هنية، لأنها ما برحت تتلقى من ضربات القدر وهي تعدو في الحياة عدواً فيه من السرعة بمقدار ما في هذه اللذعات من الألم! ... ثم قالت: ترى أي حيوان في مسلاخ هذا الهرم؟ وما كذبت أن قلبت الخاطر على وجهه الآخر، فتناولت السوط واستولت على مركبة الأقدار ولم يبق أمام عينيها إلا سبيل الحياة وظهر الكونت!..

وكذلك فاءت من غضبها إلى رضا أقبح من الغضب، ورأت أن هذا الشيخ المأفون الذي يتطاوع للصبا وقد جاوز السبعين وهلك في الدهر، ثم لا يستحي أن يجعلها مثلة على أعين الناس، وأن يكون لها مخزية ولا كالمخزيات جدير به أن يجد منها كفاء ما وجدت منه، وجدير بها أن تبدله من شهر العسل شهراً هو أحق به وأهله، وهو على ذلك أقرب الأشياء من العسل لأنه ... "شهر النحل" ... ! قال "الشيخ علي": هكذا يفسد الرجل المرأة وهو يدري أو لا يدري، فهو يبتغيها متاعاً ويريدها ملهاة، ثم لا يقدر فيها غير الطاعة لما ابتغى وأراد، كأن الطينة الإلهية التي جبل منها الرجل شديداً متماسكاً، بقيت منها بعده هنة ضعيفة فتركت حتى ركت وانسحقت ثم خلقت منها المرأة ذليلة طائعة ... وإن أقدر خلق الله ليكون معه الدرهم فاضلاً عن حاجته فلا يجد ما يمنعه أن يبتاع به الزهرة الناضرة، ولكن العجيب من أمره أنه إذا احتازها لا يلويها بين أصابعه ولا يدنيها من أنفه إلا بعيداً بعيداً وقليلاً قليلاً، بل إنه ليستحي لقذره من طهرها، ولنتنه من عطرها، فلا يحملها حتى يتجمل لها، ولا يظهر بها حتى يكون في الجمال أهلها، وما أدري كيف أدبته الطبيعة هذا الأدب مع شبه الجمال، ولا تؤدب مثل ذلك الهرم الأحمق مع الجمال نفسه؟.

ويعمد الرجل متى أصاب مالاً إلى الطيبات من صنوف الطعام وملذات الشراب فيتضلع ويتملأ، وليس في ذلك من حرج، إذ هو ماله ينمو في باطنه، فإن ربح أو خسر فإنما "المضاربة" في معدته..، ثم يعمد أقبح خلق الله وجهاً وأظلمهم سنة وأشأمهم طلعة، بذلك المال نفسه إلى أجمل النساء فيرخي عليها أستار بيته، ويساهمها قبحه وجمالها، وإنما هي في رأيه بعض الطيبات وصنف شهي من طعام القلب، فترى في أي جهة ينمو هذا المال الذي بذله وتندى به، فإني لا أرى له نمواً في قلبه ولا في قلب تلك الحسناء؟.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015