وقد أحب الفتاة أكثر مما أحبته، ولكنها كانت غريرة لا تتبين منزلة ما بين الحب والاستسلام، وبين ما يعده الرجل وعدا بالفعل وما يراه وعدا بالكلام، ولم تعرف أن هذا الحب سلاح ذو حدين، فالمرأة تقتل به من ناحية الرجل، فإن غفلت مرة عن نفسها قتلت هي به أيضا من ناحيتها، وأن حب الرجل حب مجنون بطبيعته، فإذا لم يكن حب المرأة عاقلا انقلب كلاهما حيوانا طامس القلب لا يبالي ما جنى على نفسه، وأن الرجل يقاد من رغبته ما دامت أملا في قلبه، فهو يعد المرأة ما شاءت وشاء لها الهوى، حتى إذا انقطع هذا الزمام انقطع ما بين لفظ الوعد ومعناه، فأخذ منها ما أخذ وترك في يدها ما أعطى، وما عسى أن يكون قد أعطاها إلا آمالاً ومواعيد وغروراً من زخرف القول؟ وكذلك أمر الرجل والمرأة: تحسب الفتاة إذا هي أحبت فاستأثرت لصاحبها أنها تبذل في مرضاته أعز ما تملك، وتنوله خير ما استؤمنت عليه، وتعطيه ما لا تستعيض منه آخر الدهر، وأن ذلك أحرى أن يؤدم بينهما، وأن يكون ميثاقاً للحب غير منقوض، ويحسب الرجل أنها لم تنله إلا شيئاً هيناً قريب المنالة، هو عندها وعند كل امرأة، فإن كان سري الخلق نبيل النفس رثى لها مما صارت إليه، وندم كما يندم على الإثم، ولا يكون همه إلا أن يلتمس المخرج من أمرها، فإن طارحته حديث الزواج رأى أن من فرطت له حرية أن تفرط فيه، وهتها بهذه الكلمة وسلم وقد مات الذي بينهما، وإن كان لئيم الطبع خسيس النفس شد على رقها واتخذ من ضعفها قوة ومن خوفها أمناً حتى إذ ملها تنكر لها ثم أنكرها، فإن استقضته ما وعد من زواجها رأى أن الزواج قد سبق أوانه ... فلم تعد تصلح له ولا يصلح لها، وكلا الرجلين سافل دنيء زمر المروءة وإن قال الناس فيهما سري ولئيم.
فالسحابة تنهل بمائها، ثم تجمع مرة أخرى في سمائها، والزهرة تقطف لحسنها ثم تنبت مرة أخرى في غصنها، ولكن العذراء حين تفرط في خدرها، وتضع نفسها دون قدرها، لا تبرح شقية حتى تنزل في قبرها.
وهكذا لا يزال الرجل في عتوه وظلمه كالساحل، ولا تزال المرأة في ضعفها ولينها كالموجة، فلو أن ألف موجة عاتية يصدمن الساحل لاستباحهن وما سلبنه مقدار شبر من الرمل! وما اعترض رجل وامرأة في خلق العفة، إلا كانت هي الساقطة وحدها في الاعتبار، لأن العفة إنما عرفت بالمرأة من أصل الخلقة، وإنما يتصاون الرجل تشبها وتقليداً، فإن هو زل مرة وقارف الإثم فقد أخطأ في التقليد ولم يفقد شيئاً من طبيعته، ولكن المرأة متى فعلت ذلك فقدت من نفسها وغيرت تكوينها وأخطأت في الأصل الذي بنيت عليه طبيعتها وقامت به شرائع الله وهي فيه نظام الأمم فلا جرم كان عقابها على الخطأ عقاباً نفسياً يجمع من شدة الطبيعة إلى عنت الشرائع إلى قسوة الاجتماع، ولهذا كان شر عيوب المرأة ما عاب فضيلتها الخصيصة بها.
قال "الشيخ علي": وانطلقت نفس "لويز" لمسرى خيال حبيبها، وكانت تبغضه دون البغض إذ هو مسعدها ومشقيها، فصارت بعد زواجها تحبه فوق الحب، إذ لا ترى لها مسعداً غير ذكراه، ولا تعرف على ظهر الأرض من أشقاها غير الكونت.
ولما ذكرته انهملت دموعها فجعلت تبكي حتى انحلت سحائب همها، ثم أشرقت كما تصحو السماء في أعقاب المطر فلو رآها أشعر الناس في ذلك الجمال المشرق الحزين الذي تورد حتى التهب، لوقف عندها وقفة العابد في المحراب يشعر بالقوة الأزلية ولا يحسن أن يصفها. وأي شاعر تحيط نفسه بهذا الشقاء الذي رفعه جمالها الساحر من بين آلام الأرض وألحقه بذلك الألم المنفصل من السماء الذي لم تشهده الأرض إلا مرة واحدة يوم جلست حواء تبكي أول بكائها بعد خرجها من الجنة ... ؟ ويالله ما أروع الجمال حين يتألم ويحزن ويحضر الجميلة همها! إن مثل من يحاول أن يصف دموع هذه الجميلة وحسراتها وصفا ناطقا يتنفس به القلب، كمثل من يريد أن يخلق من سحر البيان زلزلة ترجف بها الأرض حين يبالغ في وصف الزلزلة، وما اللغة إلا أداة، فكيف ويحك تستعمل هذه الأداة في صفة قوة تعجز عندها كل وسيلة حتى الشعور الذي أبدع اللغة؟