المساكين (صفحة 4)

وهذا "الشيخ علي" رجل غامض متلفف بحقيقته العجيبة، كدهاة السياسة في شباكهم التي يأخذون بها الأمم والشعوب فلا تبرح ترتبك فيها ارتباك الصيد في الحبالة، وأولئك الفلاسفة الذين يعيشون في السحب العالية من فضائلهم فيمطرون الكون مرة ويرجمونه مرة ... إلى غيرهم من روابي الخلق زمن كل رجل عظيم أظله أحد الجناحين المنبسطين على الأرض والسماء: جناح الوحي أو جناح التاريخ. ولكن "الشيخ علي" على غموضه من كل جهاته واضح ن جهة واحدة هي جهة الجنون في اصطلاحنا، وتلك هي جهة الفضيلة الخالصة فيه، وإذا قطعت ما بينه وبين الرذيلة وجعلت له في الناس رذيلة مجنونة مثله، فكانت سبته أنه رجل مطلق لا ينزل على حكم، ولا يتحمل على أمر، ولا ينازع إلى عادة الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا بنفسه من هموم الناس وأصبح كالروح الوثابة التي لا يمسكها قيد ولا يخضعها زمام، والتي هي فيه كما هي في موجة البحر وعاصفة الريح، فكل مخلوق يحجل في الحياة لمكان القيود منه، وهذا يجمع الوثبة العالية ثم يثب مقبلاً ومدبراً ويتخطى مد بصره في الحياة كأنه براق الأنبياء.

وليت شعري هل يأمل الناس أن يشهدوا الحقيقة مغلوبة على أمرها، وما كانت الحقيقة أحد الخصمين قط إلا كانت الهزيمة على الآخر ولو أن هذا الآخر عصر من تاريخ الأرض؟. ثم ما هي الحقيقة إلا أن تكون عقلاً مطلقاً لا زيغ فيه، أو حقاً لا كذب فيه، أو يقيناً مطلقاً لا شك فيه؟.

وهذا "الشيخ علي" أما عقله فعند الله، وأما حقه فقد أوجبه الله، وأما يقينه فلا يعلمه إلا الله، فكيف يرى مغلوباً لاصطلاح أو عادة وأكثره راسخ في السماء؟ إنه ليجوع ويظمأ ويعرى، ولكن كما يجوع الطير وتظمأ الأرض ويعرى الشجر: ليس من حالة إلا وسبيلها من رحمة الله، فإن تخلت عنه السماء مرة وقطعت مقاوده من الغيب وخذلته الوسيلة- فما تغمز منه الحاجة إلا حجراً صلد يقع على أي جانب ترميه ثم لا يقع إلا حجراً، لأن آلام هذا الرجل من الألم القفر الذي لا ينبت فيه شيء من الخوف، ولا يهتدي إليه وهم من الحياة، ولا مجرى فيه الدمع، ولا ظل للحسرة، وهو ألم إن أفضى إلى الموت أفضى برجل لا يعرف الموت ما هو، وإن أبقى على الحياة أبقى عليها في رجل عرفت الحياة من هو ...

رجل حط الله أوزاره وكتب عليه أن يكون فقيراً من المال وحب المال وذل المال، فخرج وليس له في أفئدة الناس إلا الرأفة والحنان، وجاء وليس له من الناس حاسد أو عدو، وخلق ذا حدين من نفسه الماضية لا يكتنفه ذل أو هم إلا قطعهما وانطلق كالفرس العتيق في ميعة حضره وماذا يبغض الناس منه وماذا يعادون وهو في ذلك البحر زورق قد سقط مجذافه فليس له ما يضرب وما يسخر به، وإنما تدافعه رحمة الله حيث اندفع، والبحر لا يعادي الزورق الذي يجري فوقه ولكن يعادي المجذاف الذي يديره ههنا وههنا.

رجل كأنه قطعة من الأبد، لا أمس له يتعقبه ولا غد له يترقبه، بل الحياة عنده يقظة طويلة والموت نوم أطول.

"والشيخ علي" متى أحس بالجوع ولج الباب الذي يصيبه مفتوحاً فلا يقع على الناس إلا متطرئاً، وهو مع ذلك لا يحط في الطعام ولكن يخط فيه خطاً وما هو إلا أن يستقر شيء في جوفه مما يقيم صلبه حتى ينفر نفور الطائر لا يرى إلا أنه قد استوفى حق طبيعته من خادم طبيعي.. فلا جزاء ولا شكورا ولهذا لا يبرح أبداً على الحد الذي يصلحه لنفسه فلا يتجاوزه، وأعجب ما يرعني من فضيلته أن هذا الحد عينه هو الذي لا يفسد ما بينه وبين الناس.

وهو إذ تكلم فإنما يترمرم من طول السكوت، فإما أن يغمغم حروفاً وأصواتاً، وإما أن يلوث بعد كلما غير مفهومة كأنه يسرها في أذن الدهر الذي لا يفهمه، ولكن هذا الرجل كلمة في الشتاء وكلمة في الصيف: فأما في الأولى فأن يسأل دثاراً يستدفع به أذى البرد، ولا معنى لكلمة "هات" عنده غير هذا الضرورة وأما الثانية فأن يهب الدثار لغيره، ولا معنى لكلمة "خذ" عنده غير هذا الاستغناء، على أنك واجد أكثر ما في هذا العالم من شر وفساد إنما يرتطم في هذين الحرفين: "هات، وخذ".

طور بواسطة نورين ميديا © 2015