هذا هو " الشيخ علي".. رايته فرأيت في برودة ثورة على العالم الإنساني، وعرفته فأصبت في ضميره قطعة مجهولة من هذه المسكونة، واستجليت نفسه فإذا هو أفق فوق الأرض، وطالعته فكأني رأيت في جملته النقطة الأرضية التي يبدأ من ورائها ارتفاع السماء، وبلوته فإذا هو حصاة تحت ضرس الدنيا والناس هنالك يمضغون، فلم أملك أن غمست قلمي من نظراته في مجرى من أشعة الوحي، ووضعت الاعتبار من هذا الرجل وحقيقته ما عرفت من الناس وحقائقهم، فخرجت لي من المقابلة هذه الصفحات، ولذا كان القول في "المساكين " ما قال "الشيخ علي".
على أني إن كنت لم أحسن وصف الرجل أو كنت لم أبلغ في وصفه فذلك لأن هذه الحقيقة في هذا القلم كالثمر الحلو في العود المر، والرجل مما أنضجه القدر وحده ليس لنا من حقيقته الغامضة إلا الصفات التي تثبت أنها غامضة.
وهل في الحياة أشد غموضاً من رجل يرى، أو كأنه يرى، أن كل نعمة لم ينلها فهي مصيبة لم تنله، وكل ما يعرفه من هذه الدنيا أنه يعرف كيف يتركها مطمئناً وعلى شفتيه من الابتسام تحية السماء لاستقباله، ومتى هو فارقها انكشف موته عن حياته، وصرحت هذه الحياة من ضميره وخلصت من هذا الضمير كلمة هي معنى الرجل الذي انطوى عليه، وكانت هذه الكلمة هي "الحمد لله".
ترى أيهما هو الصدق في حقيقته: ما نفرح به أو ما نحزن له؟.. أما إن في الحياة ملحاً وإن في الحياة حلواً وكلاهما نقيض، فليس منهما شيء إلا هو رد للآخر أو اعتراض فيه أو خلاف عليه، وتجدهما اثنين وهما واحد في اثنين.
فأنت تؤتى الحلو تسيغه وتستعذبه فإذا هو بك في الملح تمجه وتغص به، ثم لا تضع من أمر على أحسنه في صورة إلا رأيته على أقبحه في صورة أخرى.
والإنسان من الهم في عمر دهر لا يموت، ومن السرور في عمر لحظة تشب وتهرم وتموت في ساعات، والحس كأنه من هذه الدنيا فرخ في بيضة ملئت له وختمت عليه فلن يزيد عليها سوى خالقها، وخالقها لن يزيد فيها! ومن الصحة والمرض، مما سر وساء: وما شد وهد، ومن العقل العجيب الذي يحكم من الإنسان تركيباً عصبياً مجنوناً ثائراً قد استبانت فيه الحيوانية، من كل ذلك وما إليه مزيج هو بقدرة الله أشبه، ولكنه فوق ضعفنا وحيلتنا، فلن نرى منه في الكون إلا شكل الحيرة ومعناها والعذاب بها، والفرح بالغفلة عنها والسرور بإنكارها أو المكابرة فيها، والحيرة لا نفي ولا إثبات، ومتى يطلب الإنسان الحقيقة، وهو جزء منها، لا يقف إلا على جزء منها، فالمشكلة متحركة إلى كل جهة حتى لا تذهب عنها لتنساها إلا وأنت ذاهب بها لكيلا تنساها.
أما إن في الحياة ملحا وإن في الحياة حلوا ... فإن لم يمكن، فالممكن من الحقيقة للإنسان أن يستحيل فيموت! ترى أيهما هو الكذب في نفسه: الموت أم الحياة؟ إنه الجنين فالوليد ثم الميت لا محالة بعد أن يسرع الأجل أو يتراخى، لا يتقار جنين في ذاته الدموية من الأحشاء، ولا يثبت وليد في ذاته في المهد، ولا يترك شاب في ذاته العظيمة للحياة، ولا يقف شيخ في ذاته الجليدة دون القبر! ومن عقدة الثمر إلى لبتها إلى شحمتها إلى قشرتها، على ناموس القضاء والقدر، في باب الحتم المقضي من كتاب السماء، وعلى ناموس النشوء والارتقاء في باب الهذيان العلمي من كتاب الأرض ...
وكما تكون تحت الوسائد كنوز أحلام الليل، تكون في هذه الحياة أحلام الكنوز الخالدة التي يملأ الأرض كلها ضوء لؤلؤة واحدة منها.
تطلع الشمس على الناس كأنها فص خاتم السماء تشير به أن تعالوا إلى الكنز في ضوء هذه الياقوتة الصغيرة.
الحواس زائغة متراجعة مقلوبة، وهذا هو نظامها ونسقها واستوائها، فليس من أحد في هذا الكون الموجود إلا وهو ناظر إلى كون غير موجود.
السماء سموات، والأرض أرضون، والأكوان عداد العقول، وكل أمل في رأس مخلوق يزيد عنده الدنيا أو ينقصها ويغير من الخليقة ويبدل، وكل إنسان في كل يوم هو إنسان يومه ذلك، فكأن كل حي من كل حي غلطة، وآمالنا كأرقام الساعة: هي اثنا عشر رقما محدودة، لكنها في كل دقيقة هي اثنا عشر رقما فلن تنتهي.
والحياة خداع وغرور، وزيغ وخطأ، وعمل وعبث، ولهو ولعب، ومهزلة وسخرية، والناس كالأرقام تخط على هذا التراب ثم يقال للعاصفة: اجمعي واطرحي ثم حلي المسألة ...