المساكين (صفحة 3)

وكذلك أعرف "الشيخ علي" فهو لا يرى في الأشياء غير ما خصتها به الطبيعة، ولا يرسل عليها إلا أشعة صافية من عينيه الضاحكتين لم تخالطها ألوان النفس ولا زفرت عليها أنفاس القلب، وما ثم غير الانقباض والنفور أو الاستئناس والانبساط، فإما رآها قبيحة وإما رآها جميلة، ومتى قسمت الأشياء عنده إلى قبيح وجميل فليس وراء هذين ثالث في التقسيم، وليس إلا جميل جميل وقبيح قبيح، فأما المأمول والمرغوب والمتنافس فيه، والمتبرم به والمسخوط عليه، وما جاء بالشقوة وما جاءت به السعادة، وما كان من ورائه حبذا وليت، وما أعانت عليه لعل وعسى، ثم كان وأخواتها، وإن وبناتها، ثم أنا وأنت وهو، ثم انعطف على هذا من جده ولا لعبه لأن صفحة نفسه ليست كألواح الأطفال: يثبتون فيها ما لا بد من محوه، ويمحون ما يعودون إلى إثباته، ليتعرفوا ما أصابوا مما أخطأوا، وليتعلموا كيف ينبغي أن يتعلموا.

وهل تجد - أعزك الله - في هذا الناس من يحسن أن يوقرك، إلا وهو يحسن أن يحقرك، ومن يعرف كيف يشكرك، إلا وهو يعرف كيف يكفرك، ومن يقول لك حفظك الله، إلا وهو قادر أن يقول أخزاك الله ... فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليق بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله، أو ما يريدون أن تكون أهله، وليس في الناس شيء يزيد كمالاً من غير أن يزيدك نقصاً، حتى إيمانك، فإن كفر عند قوم، وحتى عقلك، فإنه سفه لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسد من جماعة، وحتى أدبك، فإنه غليظ لفئة.

أما شيخنا فقد مسح الله نفسه ومسح ما به من الناس، فليس في صدره ولا صدر أحد حسيكة عليه، وهو أبداً في صمت، فلا يتصل بفهمه ولا يداخل فكره إلا الجمال والقبح، والطبيعة نفسها تخرج الجميل تفسيراً للقبيح، وتظهر القبيح تعليقاً على الجميل، وكذلك الشيخ في إدراكه.

وأجمل ما يرى من وجوه الحياة وجه السماء الصافية، ووجه النهر الجاري، ووجه الأرض المخضرة، ووجه الرجل الطيب، ووجه المرأة الجميلة، كل أولئك عنده سواء، فليس وجه خيراً من وجه، لأنه لا يحسن أن يؤول لغة الطبيعة فلا ريبة فيه، ولا يتزيد في معانيها فلا كذب في حواسه، ولا تخاطبه الطبيعة فيما توحي إليه إلا بأسهل ألفاظها وأطهرها وبمقدار ما خلق له، إذ لا ترى فيه غير تلك الحيوانية الضعيفة التي هي ضرورية لحي منقطع مثله، وما كانت لوثه عقله إلا فصلاً بينه وبين الإنسان في حيوانيته، وإن شر ما تكون هذه الحيوانية حين تكون عقلية محضة، وراءها عقل العالم واخترع المخترع وفن المتفنن.

وقد يكون "الشيخ علي" رجلاً تعساً في رأي الناس، لأنه حيوان ضعيف وإنسان أضعف، ولكنها تعاسة بالغة، فهي من تلك الآلام الحادة التي بالغت الطبيعة في تكوينها لتخرج منها ذلك النوع الشديد الحاد الذي يسمونه اللذة، وربما كانت التعاسة السامية خيراً من سعادة سافلة! إن المجنون لم يزل عن منهج الحياة بجنونه، ولكنه يتبع سنة هذه الحياة على طريقة خاصة غير ما ألفه الناس أو تواضعوا عليه، ليرى في كل شيء أثر جنونه، فهو حي مع الأحياء بيد أنه يشبه أن يكون تفسيراً للحياة الغامضة التي تلوذ بكل جانب مهجور على وجه الأرض، وبكل رأس تحتسبه جانباً مهجوراً، لأن الناس لا يفهمونها ولا يتسعون لفهمها.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015