الليل منسدل كأنه حجاب مضروب بين الحياة والأحياء، مجتمع الظلمة كأنما هي ذنوب الناس في نهارهم جعلت الملائكة ترسلها إلى السماء، وتغشى الأرض معنى من خشية الله فنفرت له دموع المساكين، وأقبلت عليه أنفاس المحزونين، وبرزت له في آثار الظلم دعوات المظلومين، وقد ارتفع إلى الله صوت يتقطع زفرات، ويتلهب حسرات، ويسل من الدمع قطرات، وكان صوت لويز وهي تزفر الزفرة تكاد تنشق لها، وترسل الأنة تكاد تدفن فيها، وما بها فتسكته عنها، ولا بها الحزن فتمسحه بدمعها، ولا بها الهم ولا بها الغضب، ولا أمر مما يتواصفه أهل البلاء ويبثونه في شكوى أحزانهم وإنما ذلك شيء إن يكن من الحياة فليس بالحياة، وإن يكن من الموت فليس بالموت، ولعله منازعة الحياة والموت على قلبها! ما بك يا لويز وقد بت زوج الكونت الذهبي، وهو عما قليل آخذ ما أمامه، وتارك ما وراءه، وما بك أيتها المسكينة وقد كنت فقيرة بائسة لا تملكين قوت يوم فقبضت على أعناق سبعين سنة تجمع المال وتكنزه، وما بك عمرك الله وقد خرجت من الكوخ إلى القصر، وصعدت من العريش إلى العرش، وإن كانت حواء قد طردت من الجنة فقد طردت أنت إلى الجنة وفي الجنة قوم يقادون إليها بالسلاسل ... ! قالت المرأة وهي تناجي ربها: ماذا قضيت علي؟ لقد وضعت الدنيا في راحتي وكأن مملكة آمالي مرسومة في كفي، ولكن أي فرق بيني وبين تمثال من الذهب الخالص في منزل هذا الرجل! لقد رددتني من فقري وذلي إلى رجل رددته أسفل السافلين فما يريني الدنيا التي أعرف أنها الدنيا ولكنه يريني الآخرة! ...
يا ويلتا! إن لم يخجل الرجل من شيء أفلا يخجل من أنه لا يخجل؟ أبى هذا الموت لشقائي إلا أن يتخذني زوجته، وكنت خليقة أن أجعله أسعد رجل في الدنيا لو اتخذني ابنته! اللهم إنك رزقتني العافية في كل جوارحي ولم تصبني إلا في القلب! يا ويلتا ما أنا إلا لعبة في يد هذا الطفل، لا يلذه شيء أكثر من تحطيمها في طرق لذته، وقد خلقت يا رب من يحطم القلوب الصحيحة، ولم تخلق من يستطيع أن يجبر القلوب المكسورة، وأنه ليس فيما برأت وذرأت مخلوق أشد تعبا من يفتش في قلبه عما ليس في قلبه، وهل من الممكنات أو في أشباه الممكنات أن أجد في ناحية من قلبي حب هذا الزوج؟ لقد عرف الناس أن قلب المرأة كثير العبث، وهذا الذي يسمونه دلالا ويسبونه في الحب إنما هو شيء من عبثه، وأن هذا القلب إنما خلق ليحب، ولذلك أعطي قوة يخلق بها الحب من العدم، غير لأنهم جعلوا فيما يجهلون من أسرار المرأة أن ذلك القلب إنما جاءه العبث بالرجال من أنه لا يطيق أن يعبث به أحد من الرجال، ومتى وجد من هؤلاء من يريده بنادرته ويجعله من هزله معرض السخرية وموضع العبث، لم يكن في الدنيا أحد أبغض إلى المرأة منه، وإن كانت الدنيا كلها في طلعته، وإن كان مخلوقا من رونق الشمس.
أليس النساء يحببن حتى الكلاب ويرفهنها ويغالين بها وينزلنها منزلة الولد في الحب والانعطاف والتوجع والتحزن؟ فسبحانك اللهم! إن هذا القلب الذي يسع حب الكلب يضيق عن حب كثير من الرجال إذ يحبون المرأة حبا ليس فيه شيئا من روحها حب الزانية أو الاستمتاع أو الخدمة فكأنهم بذلك يبغضونها بغضا فيه كل روح.
يا ويلتا! أعجزت أن أجد في هذه العاجلة نفسا أرى فيها نفسي؟ وهل حرمت علي كلمة الحب فلا يفيض بها صدري ولا ينطق بها لساني؟ وهل خلقت للؤلؤة لأكون في عقد من الحصى، ورسمني الله بهذا الجمال ليعذبني بهذا القبح؟ وما عسى أن ترد علي هذه النعمة ما دمت لا أجد لها سبيلا إلى قلبي، وما دام هذا القلب لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ولا يعامل بالمال ... ؟ ضل ضلالكم أيها الناس إذ تحسبون النعمة حق النعمة في الغنى وحده، وتمضون الأمر على ما تخيلتم من ذلك، ولا تدرون أن الله ينتقم بالغنى أشد مما ينتقم بالفقر، فلو أني بليت بالمصيبة وأنا امرأة خاملة لا احتملتها وقلت خمول عرفته فما يبلغ به ولا يزيد ني بنفسي ولا بنفسه معرفة، ومن رحمة الله بالفقراء الخاملين أن في كل بلاء يعتريهم ما يعينهم على حمل بلاء أشد منه، ولكن الضربة اليوم لا تصدع الصدقة بل تستحق اللؤلؤة، فاللهم لا قوة إلا بك!