ولقد رأى الكونت أخزاه الله أن أحسن ما يكون الاستمتاع بالجمال حين يكون الجمال فنا وفتنة، فأنا الفتنة ففي عيني لويز وجمال تكوينها، وأما الفن فلا سبيل إليه من هناك ولا من فلسفته، وليس إلا أن يبسط يده كل البسط حتى تنبت له تلك الزهرة من أغصان الذهب والجوهر، فأنفق واتسع في الإنفاق، وجعل آمال شيخوخته كلها مقترحات في زينة الفتاة، فبرعت البراعة كلها في الرقص والموسيقى وأحسنت من الفن النسائي في أساليب الظرف والجمال والزخرف على جسمها، ما ترك هذا الهرم المتصابي المفتون يفاخر الناس كافة بأنها خارجة من قريحته.
وأعجب ما في الأمر أنه على كثر ما أنفق وطائل ما بذل، لم يكن يرى أنه أنفق على لويز ما لا بد منه على لويز، وهو منذ أصبحت في كنفه، استبدل من الحرص على المال بالحرص على الحياة، وعرف أنه لا بد في الحب من وسيلة، وأن قلب المرأة ليس في يد أحد ولا في يد المرأة نفسها، بل هو يختار فيما يختار، ويختار على ما يحتكم، وأنه ليس أشد عنفاً من هذا القلب، فهو إن لم يحي قتل: يحب المرأة عاشق غير محبوب منها، ويريد مراغمتها على حبه فيقتله قلبها لوعة وضنى بما يطوع لها من صده أو بغضه، وتحب المرأة ثم يمنعها قومها ويرغمونها على غير من تحب، فلا يقتلها إلا قلبها! وإن فكتور ليعرف أنه فارغ الخلقة ... من وسائل الحب كلها، ويعرف أنه في أحمض أنواع الهوى لا يعدل أكثر مما تعدل قشرة الليمونة المعتصرة، فكيف به في الثمر الحلو، وكيف به في حب لويز! لم يبق إذن إلا أن يخرج الوسيلة من يده، والمال أضعف الوسائل في الحب الصحيح وإن كان أقواها في الحب المكذوب، على أنه لا يجعله قويا من ضعف إلا أن يظل يمد بعضه بعضا، فإذا انفضت اليد أو أمسكت فلأن يقبض المحب على الريح أيسر من أن يضع يده على ظبية شاردة ...
ومن أجل ذلك توسع الكونت البذل حتى كأنه كيس مخروق. ولم يعرف لها طلبا إلا بلغ فيه رضاها وحسب أن في رضاها محبتها. فكان يأتي بالحاجة التي كانت تطلبها والحاجة التي لم تطلبها، ويجعل كل شيء شيئين، "وأبى أن تعبد لها أن يكون عبدا بشهود وأدلة".
وبقيت لويز تتربص به الأجل، فكانت له كحرف التسويف، ولا تزال تدفعه عن نفسها، وتروضه على الصبر، وتمنيه أنها تستتم فنون الجمال من أجله، وأن هذا القمر متى تم فسيدخل معه في المحاق.. لا محالة. وتظن باطلا أنه لم يبق منه إلا كما بقي منه من ذنب الوزغة تضرب به يمينا وشمالا ثم تموت، بيد أن الموت لم يستنقذها منه، وإن كان يرأف بها أحيانا وتدخله الرقة عليها فينيب عنه الروماتزم ليريحها بضعة أيام! ...
وكان الرجل يخشى غضبها ويطمع في رضاها فكان يستعين ببعضه على بعضه، ويعلم أنها ترى الصبر أحسن ما فيه فيترك أقبح ما فيه ويصبر، فلما استوت فتنتها ولم يبق من باطلها ما تتعلل به أو تتملق به علة، ورآها قد أخذت زخرفتها وازينت واهتزت وريت، صار منها كحرف الجر لا يريد إلا أن يكون الجار والمجرور (متعلقين) ... وفرغ صبره واستقين أن له آخرة وأن صاحبته لا تزال في أول دلالها، وكانت تحسب أن الدهر نائما عنها فإذا عينه قد انتبهت في أجفان هذا الشيخ فنظر إليها نظرة لا صواب فيها....
وباغتها الرجل فخيرها بين أمرين خيرهما شر: إما طريق إلى صدره وإما طريق من غدره، ومع الأولى الوصية بالمال، ومع الأخرى أن تذهب في الحال! وكذلك غلبها على أمرها وانتصر في معركة كان لا بد من أن يخر فيها أحدهما صريعا، وقد استحال أن يكون المغلوب غيرها، وإن عثرة تستنهض منها بعد حين خير من عثرة لا تستقيلها، ورأت الظبية أن لا مناص، فوقعت في يد القناص ...