وما أشبهني إذ قتل هواي هذا الكونت، بزنجي من زنوج أميركا اغتال سيدا من البيض، فلم يجدوا له عذابا إلا أن يشدوا قتيله في وثاقه، وتركوه يبلى تحت عينيه ويسيل جوفه تحت أنفه ويتناثر لحمه على صدره! ... وهكذا يقتله القتيل وحده بالرعب والجنون قتلة لا وصف لها في لغة الحياة.
ولقد كنت بائسة يطير بها الفضاء ويقع فلا تزال دهرها تحت جناح مخفوض من رحمة الله أو فوق جناح منشور من الأمل في رحمته، فلما وجدت الغنى واستشرفت السعادة، شغلني تالله بهم نفسي، فشغلتني نفسي عن النعمة فلا تزيدني ني النعمة إلا هما! وقد كتب الله علي أن يقتلني بغض هذا الرجل فوهبني الغنى من يده وحسب الناس أن ذلك لكيما استمتع به، وعلم الله أن ذلك لكيما أتصل بقاتلي! فاللهم قد أحيط بي وليس ورائي منفسح، فمن حيث التفت لا أ {ى غير ما قضيت علي أن أرى، وهذا امتحان أينما أنوجه في الحياة لا تقابلني الحياة إلا بمسألة من مسائله المعضلة! إن كلمات القضاء لا تقرأ لأنه لا ينزل بالناس إلا معانيها، على أن الكلمة الأزلية التي يكون معناها هذا الزواج وهذا الزوج لا بد أن تكون جملة كاملة من غضب الله في السماء، لا يقابلها إلا سيرة كاملة من ازدراء الناس في الأرض.
قال "الشيخ علي": ونفرت دموع هذه المرأة تخفف من يأسها، وأنه ليأس أكبر مما تحتمل نفسها من الصبر لو أنه من وجه ذلك الزوج وحده ... فكيف به ومع ذلك شبابها الهالك، وآمالها الضائعة، وغصة من شماتة الناس وازدرائهم، وبلاء من نعمة سابغة ستنقلب فضيحة وسخرية؟ واهاً لك أيتها المسكينة! إن مصيبة الأغنياء لتكشف نفسها فهم يحملونها ويحملون آراء الناس فيها، وإن المصيبة لتكون واحدة ولكنها ترتد إليهم من قلوب الشامتين من أعدائهم والمتربصين من حسادهم والمتوجعين من سائر الناس وكأنها مصائب كثيرة لا تعد.
والمرء لا يأخذ من الله بشرط ولا يعطيه الله على شرط، فإن كان في الغنى تلك النعمة ففي الغنى هذا الهم، وما رأيت أيسر اضطرابا من الماء الراكد قذف بحجر، إلا الغني الغافل قذف بمصيبة! ويحكم أيها الأغنياء! متى رأيتم ثمرة لا تسقط أبدا من غصنها الأخضر وثمرة تسقط من الغصن ثم ترد إليه فتعلق به وتنضج عليه، فاعلموا يومئذ أن غناكم هذا نعيم لا رزيئة فيه ولا مصيبة، لأن هذا الكون حينئذ يكون فوضى لا نظام له ولا قرار.
وانصدع الفجر، وأقبلت الحياة تتنفس من مباسم الأزهار، وتتغنى بألسن الأطيار، والفتاة موجسة أن ترى طلعة شيخها، وكأن هذه الطلعة صبح غير الصبح، وودت لو وقف الزمن، فإن لم يكن فوقوف الأرض، فإن لم يكن فوقوف قلب هذا الشيخ، وخيل إليها لأنها ستقرف بإثم منكر إذا هو بادرها قبلة الصباح على مثل شفق الشمس من خديها، وأنها لا ترمى بمسبة أوجع ولا أمض من قوله: حبيبتي! ... وانسلخ الليل، وطارت الأحلام، وأفصحت الحقيقة، واستيقظ الكونت ...
زهرات ناضرة كأنما اختبأت فيها ابتسامة الفجر، عاطرة كأنها رسالة اللقاء بعد الهجر، بديعة التنميق تحسبها قصيدة من شعر الألوان، متفتحة للحب وكأنها لكتاب الحب عنوان، متلائمة مصفقة، متلاثمة كالشفة على الشفة، قائمة في جلالها وحسنها كأنها في خلقة الجمال آية، وكل زهرة في لونها كأنها لدولة من دول الحسن راية، وقد جلست إليها غادة فتانة كأنها في رقتها روح النسيم وفي نضرة شبابها روح الحديقة، ولاحت الأزهار كأنما هي خيالات جمالات جمالها، وظهرت الغادة كأنها هي الحقيقة.
تلك هي لويز في صبيحة عرسها على المائدة وقد أثبتت في كل زهر لحظا من لحاظها، ولا يشك من رآها في تلك الحال وهي ترتقب ظهور زوجها أنها تنفس على هذه الأزهار شابها ونضرتها وحسن ملاءمتها، وتحسدها على أن ليس لها أعواد من الحطب يفسد نظامها وتنكر بهجتها وتغص من حسنها كما ابتليت هي بزوج من عود ...