قال "الشيخ علي": وانقلب الاثنان كلاهما صيد وصائد: أما هي فأصابت رجلاً مجنوناً بها يحبها حب الجد والأب والزوج والعشيق، فإن ثاب إليه عقله من جهة بقي مجنوناً من ثلاث جهات، وحسبت أن الموت مصبحه أو ممسيه فهو همها عشية أو ضحاها. ولقد كانت من الضائقة والعوز وشدة الاختلال بحيث لو عهد إليها أن تغسل الزنجي حتى يبيض لقاء درهمين لطمعت فيهما ... ! وأما هو فقد ظفر في زعمه بالمرأة الطبيعية التي نبتت مع الأزهار، وطلعت في سماء الحياة مطلع ضوء النهار، وحسب أن هذه الفتاة التي تناهز العشرين إنما هي زيادة عشرين سنة في عمره ينتهبها من القدر انتهاباً ويقضي بها بين الحب طفولة وشبابا. ولست أدري كيف عذب العقل عنه، ولا كيف خذله رأيه، ولا كيف وهى ركن فلسفته وكان من قبل وثيقا وكيف أحب منذ الساعة وقد كان يتصاون عن النساء ويحسب أن بغضهن عقد لا يحله إلا من يحل عقدة نفسه ... ! ولكن الحب يا بني لا يكون عجيبا بلا شيء يعجب منه، وكثيرا ما يمتلئ الرجل بغضا ليحب ب ذلك بمقدار ما أبغض، فمثله كمثل من يبحث عن البرهان بطريقة من طرق المغالطة التي لا تؤدي إليه، فمتى أصابه كانت قوة البرهان بطريقة استخراجه العجيبة أشد منها في البرهان نفسه.
وهي الأرواح ما زال بعضها يتسلط على بعض، وما أن يزال في كل روح معنى هو الوسيلة إلى هذا التسلط ومنه مصاغه ومأتاه، فلو قلت إن في مسلاخ ذلك الرجل معنى الحمار لما كان في الفتاة إلا معنى العصا، وكذلك انطلقت وهي تسوقه في طرق مصائبه، وعند العصا تفرغ حيلة الحمار ولو كان الحمار أبياً.
من هذه الهيفاء التي تستميل ولا تميل، وقد استبدي بالجمال فلا يرى في غيرها شيء جميل، طالعة كالضحى فكل نجمة من ضوئها كاسفة، لاهية كالنسيم وفي كل قلب من حبها عاصفة، وقد عبدها العشاق باطلا كما يعبد المجوس الشمس، وتمنوا في دلالها المحال كما يتمنى المرء من أمس، وكتب عليها هواها المحتوم: "جند ما هنالك مهزوم"! وكم تمنوا لو أن لين أعطافها، يتعدى إلى انعطافها، ولو أن بعض ابتسامها، يشرق على ظلمات اليأس من غرامها، وهي تقتل منهم برضاها وغضبها على السواء، كأن حبها الموت: متى قضي جاء به الداء وجاء به الدواء!
ومن هذه الطالعة في غلائلها، المعروفة في الحسن بدلائلها، المشرقة كالبدر في ظلمة الحلك، الضاحية كالشمس في قبة الفلك، تعترف بالهوى في ألحاظها، وتنكره في ألفاظها وتقبل بعينيها سائلة عما بين جنبيك، وتلتفت بجيدها مائلة عن جواب عينيك، وقد حسرت عن زنديها، ووضعت رمزا للحب تلك الوردة على نهديها، فلاحت للمحبين كأنها روح القبلات من خديها؟
ومن هذه الزهراء كالزهرة المشبوبة، الحسناء كالدمية المنصوبة، المشرفة في زينتها كغرة الدينار، اللائحة في ميناء الدموع كما يلوح المنار، وقد شف قلبها عن الجوى كما يشف الزجاج، وتدافعت من طرب الهوى كما تتدافع الأمواج، وحتى ترقص على حركات القلوب في الضلوع وتسترسل في سهولة كأنها جسم خلق من الدموع، والأبصار قائمة على قوامها، والنفوس حائمة منها على حمائمها، ن وما هي في عين المحب إلا خطرات الطيف، أو رقة نسمات الصيف، ولا رقصها إلا معركة في الحب قام فيها اللحظ مقام السيف؟
ومن هذه الباسمة كالأزهار، الساجعة كالأطيار، التاركة عشاقها كالشمس بين طرفي الليل والنهار، القائمة كالكأس في اليد، الناعمة كالحمرة في الخد. وهي تحيي بالصوت لأنه يخرج من صدرها وتسكر باللفظ لأنه يمر من ثغرها ويكاد يخلق من سحر القلب المفتون، ومن حركات أناملها العقل المجنون، إذا صدحت فحمامة! وإذا رقصت فغمامة، وإذا أرسلت من يدها صيحة الأوتار أقامت للطرب القيامة؟ تلك هي درة الصدفة المطروحة على ساحل الموت، وهي حمامة ذلك القفص البالي المصنوع من العظام، وهي خطيبة الكونت فيكتور..! وتلك هي لويز القروية الساذجة، كانت نبتة في الطين، فأصبحت زهرة في وعاء ثمين، ولأن تكون نبتة مهملة وتنمو، خير من أن تكون زهرة مرعية وتجف.