ورأى فيما يرى النائم كأن الأرض ترقصه على أعشابها لتمسح عن أعضائه التعب، ثم أبصر السماء في مثل تحاسين الطاووس من ألوانها وأصباغها كأنما أشرف على الأرض فجر يوم من أيام الجنة، ثم نظر فإذا ضوء رطب يتندى وقد ترقرق فأصاب شفتيه الذابلتين، ولمح على إثره وجه حسناء كأنها فلقة قمر، فكان ذلك الضوء قبلتها وابتسامتها، وكان على قلبه "برداً وسلاماً" فنصب لها يديه يتناولها فإذا هي أمامه ضاحكة، وإذا هي ملء صدره وذراعيه، فارتجف جسمه رجفة شديدة كأن فيها شوق سبعين سنة من الهجر، وما لبثت عقد أجفانه أن انحلت فنظر فإذا يد فتاة قروية ناعمة تهزه برفق!..
فانتهض الكونت كأنما نشط من عقال ولما تصح عيناه من سكرة الحلم فكان يخيل إليه أنه يرى جمال السماء والأرض معاً في طلعة هذه الفتاة وعلى غرتها، ثم كشف لها عن رأس كفروة الأرنب البيضاء، وانحنى متأدباً وقال بلطف: أشكرك يا سيدتي! أما هي فابتسمت له وقام في نفسها أنها هي ردت عليه روحه، ولأنها لو لم تنبهه انتبه آخر الدهر، كأنما حسبته ميتا وظهر هذا الفكر في ابتسامتها فأكسبها شيئا من قوة روحها، وجعل لشفتيها الحمراوين جمالا كجمال الشفق إذا افتر عن نور الفجر.
وتأملها الرجل بمبلغ ما في نفسه من لذة الحكم وما في صدره من ضجعة تلك الحورية التي تلوث عليه وتقلبت فيه "وبعث عليها وهمه وصبغها [ألوان نفسه واستضاءت به، فكأنها من أمام الفانوس السحري! ... " وما خلق الله لذم أهنأ للنفس من لذة الأحلام، فكأنما ترى فيها النفس شيئا من تحقيق المستحيل، وإن في أعقاب هذه اللذة بعد اليقظة ما يشعر المرء بالأماني كيف جاءت وكيف ذهبت، فكأنما كان في حياة أخرى، وكأن نفسه تتمسك بهذه الحياة ولا تريد أن تسلمها، فتكون ذكرى الحلم نفسه على الحقيقة، لأنها نتاج ما بين لذة لم تكن شيئا ولذة صارت شيئا.
وثبتت صورة الفتاة في عينه على ما اشتهى، وكانت زهراء اللون، حوراء العينين، ساجية الطرف، أسيلة الخد، باسمة الثغر، حسنة التكوين كأنها ريحانة ترف رفيفاً، وتكاد من فرط رقتها تتكلم ابتساما حتى لا يحسب من رآها أن الشمس طلعت يوما على أبعد من ثغرها واللؤلؤة، ولا أحسن من خدها والورد، وكأن الطبيعة يعتريها أحيانا من سوء الحرص وسوء الخوف وسوء الحيلة بعض ما يعتري الشحيح الذي يخبئ من الأداة والمتاع. فكانت "لويز" على ما وصفنا من الجمال والظرف ولم تكن مع ذلك إلا قروية! أما صاحبها فما أشبهه بعنق النسر: شيخ مضعوف، كالعرق المنزوف والعظم الملفوف، ممسوح العضدين، ناسل الفخذين، كأنما يتوكأ منها على عصوين.... غير أنه له عينا يتوقد فصها ويستنفض الناس طرفها فلا يملك من تقع عليه أن يضطرب، وكذلك اضطربت الفتاة، وما كاد الرجل يلمح اضطرابها حتى طبع الله على بصيرته فحسب ذلك معنى من الغزل، وانطلق وراء خياله يمر به على آمال الشباب الفانية، وكان لحظ الفتاة ينساب في عروقه دما يغلي، فحسب أن جسمه قد ثاب إليه، وأنه بعث خلقا جديدا لهذا الحب الجديد.
... ويبالغ في التظرف ويجلس قريبا منها يستنبئها وهي تطرف له من أخبارها، فعلم من روايتها أنها شريفة النسب خالصة العرق، وقد نبا بها المنزل وانحط الدهر على أهلها فهي ذاهبة إلى المدينة تتلمس حياة التقوى في دير العابدات ... وعلمت هي من رؤيته أن هذا الموت الماثل أمامها حياة، وأنه لا مذهب لها من ورائه إذا هي أفلتته إلا مذهب القدر المجهول، ورأته كأنما يتسرب لفظها ولا يسمعه، وأبصرت هواها في حماليق عينيه، فجعلت حينا تبسم له وتلحظه وحينا تلحظه وتبسم له، وما تلفظ من أنة في بث حزنها إلا أحس المسكين أنها نقرة على أوتار قلبه، ولعل الإنسان لا يمكنه أن يحب إلا إذا هيأت له الطبيعة مجلس الحس على ما يشتهي وعلى ما هو مذهب الحب نفسه! وقد مذعت له الفتاة من خبرها، وكتمت عنه أنه طريدة منبوذة استزلها فتى من عشيرتها على أن يتحللها وكان مها مقعد فؤادها زمنا، ثم طوح بها عاره وغدره ولؤمه جميعا، فخرجت هائمة على وجهها ولفظها قومها كما تطرح الثمرة إذا دب فيه الفساد من عبث الطير!