.. وماذا في السعادة أهنأ من أنتوقى شر هذه السعادة فلا تتطلع نفسك إليها ولا ينالك إلا ما تحب أن ينالك، فأنت بعد وادع قار آمن في سربك، معافى بدنك، خارج من سلطان ما بينك وبين الناس، من خلق مستبد، أو رغبة ظالمة، أو صلة عاتبة، ولا حكم عليك إلا لمالك الملك.....ولم يفتق الله لك من فنون اللذات ما ينغصه عليك، ولا ضرب منك مثلا، ولا نص لك عقابا، ولا جعلك مرآة عدو يصلح فيها نفسه ولا نصبك لمجاراة أو مباراة، وقد جنبك فضوح هذه الدنيا. والدنيا من السوء بحيث يفضح فيها بعض الخير ما لا يفضح بعض الشر.
ثم ماذا أنت طالب من السعادة إذا هانت الحياة فلم تضعف عن احتمالها، ولم ترمك بداء في مرض العيش إلا قمت له، ولم تحملك على أمر إلا تحملت عليه، وقويت على نفسك فلم تكذب أملا، ولم تخدعك في باطل، ولم تجاذبك في مورد لا تصدر عنه إلا آثما أو نادما، وكنت من نعمة الله مخفاً لا تحمل إلا رأسك، ولا تجوع إلا ببطنك، وقد كفيت أن تضرسك نزعات هذا الرأس، وأمنت أن يقتلك دار هذا البطن، ولم يضربك الله بشيء من هذه النعم المنافقة التي يأتي بها المال حين يأتيك بالجاه وأصحاب الجاه ومن يريدك لمالك وجاهك، وأعوذ بالله من النفاق ومن نفاق النعمة خاصة، فبينا هي لك إذ هي من طعامك قيء....
وهل في النعمة خير من الكفاف حاضرا، ومن الصحة فارهة، ومن قرة العين وضحك السن واستطلاق الوجه، وأن يكون القلب من حجاب نور السماء، لا تهتك عنه رذائل النفس، ولا يعلق به غبار الأرض، ولا يتغشاه ظلام الحياة، ولا يزال هذا القلب في نضرته وصفائه كأنه سعادة مخبوءة في غيب الله يخلق بعد أن خبئت له؟ وكذلك أعرف "الشيخ علي"، فهو رجل سدت في وجهه منافذ الجهات كلها إلا جهة السماء، فكأنه في الأرض بطل خيالي يرينا من نفسه إحدى خرافات الحياة، ولكنه مع ذلك يكاد يخرج للدنيا تلك الحقيقة الإلهية التي لا تغذوها مادة الأرض ولا مادة الجسم، فهي تزدري كل ما على الأرض من متاع وزينة وزخرف، وكل ما ردت عليه الغبطة من بسطة في الجسم، أو سعة في المال، أو فضل في المنزلة، وكل ما أنت من إقباله على طمع ومن فوت على خوف: تلك الحقيقة الطاهرة التي تكون أعظم ما أنت واجدها في سير الأنبياء والصديقين والشهداء، من نبوغ يخرق العادة، أو جنون تخرقه العادة، وما الجنون إلا نبوغ فوق الطاقة، وما النبوغ إلا جنون رقيق! وكذلك أعرف "الشيخ علي" فهو أجهل الناس في الدنيا، وأجهل الناس بالدنيا، كأنه من هذه الجهة ممتلخ العقل، وأنت إذا سطعت له بالجوهرة الكريمة النادرة فلا يعدو أن يراها حصاة جميلة تتألق، وإن هولت عليه بألوان الخز والديباج حسبك مائقاً ولم تر قط نضارة البرسيم وألوان الربيع، وكأني بك لو وصفت له الذهب وما أضرمت ناره في الأرض وهي برد وسلام، وما أيقظ جماله من الفتنة التي استحال عليها أن تنام، ثم أريته شعلة من هذه النار في غرة الدينار، لتضاحك منك إذ تريد أن توهمه - بما أعظمت من ذلك الشأن - أنك سلبت ملك قطعة من الشمس التي غربت أمس، ولرأيت من زرايته عليك ما يعلمك أنه ما أكبر هذا الدينار في عينيك إلا صغر في نفسك، ولا ملأ يديك بالحرص عليه إلا فراغ ما بينك وبين الله، ولا كدك في طلبه إلا أنك مسخر، ولا أذلك المال إلا خضوعك للآمال، وما أنت إلا في قيد من الهم حب إليك، قفلة هذه القطعة من الذهب! وإذا أحضرته ألوان الطعام وجلوت عليه أبهة الخوان وقلت فيه: هلم فاترع وأصب حتى تنتأ رمانتك رأيت من نفوره واحتجازه كأنه يقول لك: ويحك، وهل للبطن كبرياء وهو ستار على أقذار، وهل يسمع كل هذا وما هو بالعريض الطويل، ولا سلامة له إلا بالقليل لأنه قليل، وهل تحتمل ما في العنقود حبة واحدة، ويحتمل الغني أن يكون في صندوقه الإلهي حاجة زائدة، ويبلغ الحمق من هذا الإنسان أن يميت قلبه لأنه وجد النعش من المائدة؟