ولا يكفي أن بعلم الرجل كيف يسوق المقدمات وكيف يحسن القياس وكيف يخرج معنى من معنى حتى تكون النتيجة على ما توهم والحقيقة على ما يقيس والصواب كما يستخرج. وفي علم الحياة خاصة وهو العلم الذي لا مادة له إلا من الحوادث، أن بناء من المنطق لا يتخذه بيتا إلا ساكن من الخيالات ...
ولست أعرف الناس قد غالوا بشيء قط مغالاتهم في قيمة هذه الحياة، فقد والله استجمعوا لها كل ما في الرغبة من الحرص، وكل ما في الخوف من الحذر، وكل ما في الأمل من الترقب، وكل ما في الحب من الخيال، واستجمعوا فوق ذلك تلك المعاني التي لا قرار لها في الأرض ولا في السماء: معاني النظرات الوهمية التي يرسلها المخلوق من أرضه إلى عرش الله، كأنه لا يجرؤ على أن يشك في نهاية الحياة إذ هي تنتهي على أعين الناس، ولا أن يجزم بهذه النهاية إذ هو لا يريد الموت وكأن الحياة لا تكفيه.
وما دام للحياة غد يرتقب، وهو الذي يسمونه المستقبل، فكل وهم يسهل على الحياة أن تهلكه أو تمرضه أو تضعف منه، إلا تلك المغالاة الممقوتة، فإنها أبدا في خصب وعافية ما بقي لها غذاء من ذلك المستقبل المحبوب.
قال " الشيخ علي": وأنت إذا سألت رجلا هن مسألة فسدد الجواب وأحكم الصواب، قلت: هذا جواب يحسن السكوت عليه، ولكنك إذا سألتني أنا: ما هي الحياة كما يفهم الناس؟ قلت لك: هذا سؤال يحسن السكوت عليه.. لأن اللغة هي التي أسمتها الحياة واستخرجت لهذا الاسم العذب معانيه من أوهام الأحياء، وكم فيما وراء السماء من معان تملأ الأبد ولعلها لا تملأ سطا أو سطرين في معاجم اللغة! ولكن دع هذا وسلني: ما هو الزمن الذي يقضيه الإنسان من يوم يولد فلا يقدر أن يرفض هذه الدنيا إلى يوم يموت فلا تستطيع هذه الدنيا إلا أن ترفضه؟ وما هو هذا المهد الذي يكبر شيئا فشيئا حتى ينتهي إلى الفراغ فيغيب فيه؟ وما هي هذه الحوادث التي تزلزل الناس في طريق القدر حتى يخروا على وجوههم فتتحول أجسامهم في الأرض إلى تراب في طريق المنفعة، ويتحول تاريخهم ترابا على طريق الموعظة؟ ...
... سلني كذلك يا بني أجبك: هذا الفناء المحتوم وهذا الشقاء المقضي، وهذا الأمل الباطل، وهذا النسب الضائع، وهذا العمل الذي لا يراد لنفسه ولكن لما بعده، كل ذلك هو الحياة، أفلا ترنا نخادع أنفسنا إذا سألنا عن الحقيقة التي يسوؤنا أن نعرفها فنحرف السؤال إلى جهة بعيدة لكيلا نرى الجواب الصحيح مقبلا علينا ولكن مدبراً عنا؟ فما عسى أن تكون هذه الآمال، وهذه المنافسات، وهذا النزاع، وهذا الصراع، وهذه الأفراح، وهذه الأتراح، وكل ما إلى ذلك مما هو مدلول الحياة، إلا باطلا نستمتع به قليلا ثم يظهر أنه متاع الغرور؟ ما عسى أن تكون الحياة بكل ما فيها إلا مدة محدودة على ظهر الأرض تجعلها أوهام الإنسان ومطامعه وحماقته وجهله وكبريائه كأنها الأبد كله، فيكيد ويكيد، ويعمل ويدخر، ويهنأ ويحزن، ويطمع ويحرص، على نسبة من ذلك لا من نفسه، أي نسبة أبدية لا إنسانية.
ألا إنما مثل هذا الإنسان المغرور مثل رجل جمع الله عليه المصيبتين في باصرته وبصيرته، فضل في مكان، فهو يقبل ويدبر في دائرة من فضاء الأرض لا يهتدي إلى الوجه ولا يذهب على السمت، فيتوهم أن الطريق لا ينتهي وأنه وقع في صحراء لم تدرسها عكازته ... وليست من علم رجليه في جغرافية هذه المسكونة ... وكما لا تكون الطرق عند هذا الأعمى إلا عن علم رجليه، فأكثر طرق الحياة عند هؤلاء المغفلين الذين يطمس الله على بصائرهم هي من علم بطونهم، وما أدراك ما علم بطونهم ... ! وما رأت الحكماء أحدا قط جهل حقيقة معنى الحياة إلا وجدوا هذه الحقيقة في بطنه.... ولذلك قالوا: من كانت همته ما يدخل جوفه كانت قيمته ما يخرج منه ... وإنما البطن جوع فشبع وشبع فجوع، وعلى هذا القياس لا تكون حياة هؤلاء إلا جوعا في الشهوات والآمال، فلا يطفئه إلا ما يسعره، ولا يجلب الراحة فيه إلا ما لا بد أن يرجع التعب به، جوع في الشهوات والآمال بالعقل لا بالبطن، لأن علم الحياة عندهم علم بالبطن لا بالعقل، وكلاهما مثلة بهذا الإنسان، ويالله كيف يريد الإنسان أن يحيا كما يحب ثم يحب ما لا يتفق مع سنن الحياة؟