من أجل ذلك شقي أكثر الناس بالعقل، غذ يقبلون به الأمور، ويحتالون منه الحيل، ويكرهونه أن يعمل على السخرة في لذة الجسم، يحضرونه من هم الشهوات الحيوانية ما لا قبل لهذا الروح الإلهي أن يستلب فيه، وإذ يخضعونه بدلا من أن يخضعوا له، ويسيرون به بدلا من أن يسير بهم، فكان من ذلك طغيان الحواس وطمسها على الروح، وتعفيتها على آثارها الإنسانية، ولا جرم كان من وراء ذلك طغيان هذه الفوضى المترامية في الاجتماع وانبثاقها بالشر من كل ناحية، وتداخلت حدود المطامع بعضها في بعض فصار الناس كالأمواج: لا تقوم القائمة إلا من سقوط الساقطة.
وكان الناس يتعلمون كيف يسبحون في بحر الدموع ليأمنوا الغرق فيه وليستنقذوا الغرقى منه، فجدت بهم الحوادث حتى تعلموا القتال عليه وصار من لم يستطع أن ينقد نفسه يجتهد في أن يغرق غيره.
الإنسان حيوان لولا العقل، فلما أخضع لشهواته العقل صار إنسانا لا حد له في الحيوانية، فهو من هذه الجهة لا إنسان ولا حيوان وإن كان الشيطان مطرودا من رحمة الله فخير ما يقال في هذا الإنسان إنه شيطان فيه موضع للرحمة! ...
وقد خلق الله هذه الحواس ولا ضابط لها إلا العقل يحكم تحديدها ويتولى تسديدها، ويستعين في أمرها بكل على كل، ومن ثم يستقيم من هذا الإنسان شيء معقول، ويصبح قد ضربت عليه الحدود لا يتعداها، ورسمت له دائرة في الإنسانية لا يجاوزها، فيقر كل امرئ في حيزه وقد صار عنده من الناس وعند الناس منه وثائق من العقل وبينات من الحق إذا هو حاكم إليهم ضلالة منهم أو حاكموا إليه ضلالة منه وهناك يرى كل عمل طيب ثواب نفسه، لأنه هو من فضائله كأنه شريعة لنفسه، ومتى كان العمل الطيب مما يجزئ في ثوابه عند الرجل من الناس أنه عمل طيب، فقد أصبح ولا غرو من سعادته، إذ لو لم يجد به سعادة لما لقي منه ثوابا، وبذلك، بذلك وحده من دون كل الوسائل الأخرى تصبح السعادة عمل من الأعمال يمكن أن يمارسه الإنسان فيسعد ما شاء الله أن يسعد، ثم تكون الحياة على ذلك واجبات يقضيها، فإن تحققت أو لم تتحقق فإما دخلت على نفسه بسرورها وإما خرج منها بعذره وقد أبلى عذرا.
ومتى صارت حياة رجل من الناس إلى أن تكون واجبات يتنجزها ويستقضيها من نفسه، فما لشهوات البدن موضع إلا كموضع النار من يدي المصطلي: لا يراد منه إلا حرا، ولا يراد من حرها إلا قدر معلوم، ولا يبتغي هذا القدر إلا مدة بعينها، ولا تكون هذه المدة إلا بمقدار ما يصلح أو يدفع الأذى، لأسرف في كل ذلك ولا هوان ولا مضيعة.
قال "الشيخ علي": ولكن كل شر العالم يا بني في لفظ واحد: هو طغيان الحواس، وبمعنى واحد: هو إذلال العقل، ولغرض واحد: هو هذا الموت الأدبي الذي يسميه المغفلون سعادة الحياة.
منذ طغت الحواس أصبحت الحدود بين مطالب الإنسان من فضائله إلى رذائله ولا أثر لها، لأن الشاطئ لا يعرف تحت السيل إذا طم عليه، فما أنت ولا أنا ولا أحد يدري ما هو حد الكفاية في رغبات هذا الإنسان وأهوائه، بل صارت هذه الكفاية وما ينطوي تحتها من ألفاظ القصد والقناعة والرضا وما إليها ألفاظا خيالية يساير ظلها ظل الإنسان، فلا حد لها ما دام هو لا يثبت لنفسه حداً، ولا تتأخر ما دام هو يتقدم، وأصبح أكثر الناس في رغباتهم الخيالية وما يعملون لها مدى الحياة كرجل ائتلى أن يخط دائرة مركزها ليس في محيطها، فكلما رسم دائرة رأى مركزها في داخلها، فيجتاز به وراء المحيط ثم يدير يده فإذا واحدة أخرى تقاطع الأولى ولم يصنع شيئاً صحيحاً مما يحاوله، ولا هو يرى من عمله شيئا صحيحاً، وما بقي من الأرض فضاء لم يخط عليه بعد، فهناك ... هناك يرى هذا الأحمق الدائرة المتوهمة التي يخرج مركزها عن محيطها.
من هذا ونحوه أصبحت السعادة وهما من الأوهام، إن لم تعد في إشباع العواطف وتغذية الشعور، وليست في موضعها الذي هو بين الضمير والعقل ولكنها في إشباع جسد لا يشبع ما دام حيا، وفي تغذية حاسة لا يزيدها الغذاء إلا شراهة وضراوة، فلن تكتفي إلا إذا بطلت، وفي موضع مجهول بين هذه الحواس لا حد له إلا كالحد بين ما يجد المعدم وما يتمنى، فالسعادة على ذلك هي دائما في الاستعداد للسعادة ... وكفى بهذا عبثاً.