وأشقى الناس من يتوقع الشقاء وهو لا يعلم من حاضره ما الله صانع به، ولا من مستقبله ما الله قاض فيه، وكأنه يتظنى بالله فيرى أنه تعالى قد وكله إلى نفسه وأيأسه من رحمته وصرف عنه تيار الغيب المتدفع بالحوادث والأقدار بين شاطئ الليل والنهار، فلا يدفع إليه جديدا ولا يصرف عنه قديما وكأن الزمن كله يتحرك وهو ثابت قار قد حصره الهم من هذا الفلك في زاوية، ووضعه الدهر من بين الأحزان موضع القافية، والمصيبة في مثل هذا أكبر من كل شيء لأنها لا شيء ... ولا ينفع المرء أنه من الناس إذا لم يكن من نفسه، وهذا لا نفس له أن كأنه لا نفس له، إذ لا ثقة به ولا قوة فيه، ولو كان وجهه جلدة مما بين عيني الأسد لما ظهر إلا جبانا، ولو اختلط الحاضر بالمستقبل على شيء لما اجتمع منهما ما يجتمع من غضون جبهته في تعاسته التي يظن أنه خص بها، فهو يتوهم الخوف، ثم يخاف مما يتوهم، ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم، ثم يخيفه أن تخذله الأقدار فلا يقوى على ذلك، ثم يكون أشد خوفه من أن يستمر ذلك ... فمن خوف إلى خوف، وهو تتابع يصور الرعدة التي تعتريه لجبنه كما يصور ضحك القهقهة من هذا الجبن.
وذلك يا بني ضرب من ضروب استحالة النفس، كأنه ليست في صاحبها أو ليست له، فهو يمر على الحقائق فزعا كما يمر الطائر على الأخيلة التي تنصب له على الثمر، ويجزع منه كما يجزع الطفل من أرواح المردة والشياطين التي تسكن ألفاظ التهويل ونحوها يفزع به، ثم هو من المصيبة الواحدة في مصيبتين: إما الأولى فشدة الخوف التي تفقده لذة ما يكون فيه من النعم، والنعم لا حصر لها فلا يشتهيها، ولا يجد لها مساغاً بعد أن لبسه مرض الهم، وأما الثانية فقوة اليأس التي تضعف قدرتها على الحيلة للخلاص مما نزل به، فكأنما شد عزمه وثاقا، ثم لا يكون من اجتماع المصائب الثلاث معا ألا يورثنه الذل وسقوط الهمة وتخلخل الفؤاد واضطراب النفس، حتى كأنه من هذه الوساوس بين جدران وثيقة محكمة لا نافذة منها على فضاء الغيب، والغيب ملء الأبد، فيصبح جلدا بلا جلادة، وعظما أوهنت منه البلادة، ورجلا لو أطاعته كل قوة في الدنيا لما أطاعته الإرادة، وصنما من أصنام الحياة يعرفه العاقل للتحطيم ويحسبه الجاهل للعبادة ...
قال" الشيخ علي": ولقد عرفنا الحياة ما هي، لأننا أمثلة عليها، ولكن البحث في معنى هذه الحياة لم ينته بعد، لأن هذا المعنى لا يزال كما كان فوق السموات، ولو استطاع الكاتبون من أهل العلم أن يخطوا في كتبهم بمداد من أضواء النجوم التي يسكبها الخلود كل ليلة على الأرض ملء محبرة الليل، لكان عسى أن تستنير مباحثهم في ظلمات الحياة، وأنى لهم ذلك وليس وراء النفس الإنسانية إلا الذي هو وراء السماء، ولا وراء السماء إلا الذي هو وراء النفس؟ ألا فاعلم يا بني أنه ما دام هؤلاء العلماء يتعاقبون على تفسير المعاني الإلهية ولم ينتهوا بعد، فمعنى ذلك عندنا نحن الجهلاء أنهم لم يبدأوا بعد ...
وما مر الحياة؟ أما إنها ليست طريقا مسافته كذا، ولا قياسا ذرعه كذا، ولا وزنا مبلغه كذا، كذا، ولا شيئا من هذه المعاني التي تضرب الأقلام والألسنة في مفاصلها، بل هي فيما وراء ذلك من عال إلى بعيد إلى غامض إلى مبهم، حتى تنتهي إلى منبع النور الذي تلتطم على ساحله موجة الأبد.
وإن أبيت إلا هو دون ذلك وضوحا وانكشافا في التأويل فقل إنها في كلمة واحدة: فتح السماء بفكرة واحدة.
ولتدعني يا بني من لغة هذه الكتب، فإنها متى انتهت إلى السماء رايتها أكثر ما تراها ألفاظا لا معنى، إذ ليس هناك من جلال الله إلا ما يشبه أن يكون معنى لا ألفاظ له.
ودعني أحدثك عن الحياة بما أفهمه، أنا الرجل الطبيعي من فلق الصبح ومن روعة الشمس، ومن إقبال الليل وإدباره، وبما أعرفه من هذه اللغة التي تنزل بها السماء ما يتصل بنا من معانيها، لغة القضاء حين يسأل ولغة القدر حين يجيب، وبما استوحيه من معاني هذه الإشارات التي تتحرك بها جوارح الطبيعة، وهي مزيج من لغة البقاء الأرضي الذي يريد أن ينتهي ولغة الخلود السماوي الذي يريد أن لا يفنى، فالحياة يا شاعري العزيز لا تخرج من الدواة ولا تقطر من القلم، بل أنا أحسب هذا المداد الكثير الذي أراقه عليها الناس هو الذي جعلها كما يقول الناس سوداء ...