ومن ههنا تفاوت الناس، فمنهم من تراه كأنه يحاول أن يكشف عن جزئه الذي في الغيب ويصل بينه وبين حاضره، فيتوهم في الحياة ما ليس فيها ويسخرها لأوهامه باطلا، ومنهم من يقبل على شأنه ويأخذ الحاضر بما فيه ويعرف أنه حي ولكن على شروط لا بد منها للحياة.
فأما الجاهل الأحمق المخدوع فكأنما يرى في مرآة خياله الغيب كله، أو ما يظنه الغيب كله، فلا يعدو أن يسترسل في ظنونه وأوهامه استرسالا أشبه بالأبد الذي لا حد له، ومن ثم لا يرضيه شيء ما دام في هذه الحياة شيء لا يرضيه، ولا يقنعه شيء ما دام في الدنيا شيء لا يناله، وكل مصيبة يخشاها أو يتوقعها فكأنما هي نازلة به أو قد نزلت، وعنده أن كل ما يمكن أن يكون ينبغي أن يكون، وما هو جائز فليس ما يمنع أن يكون واجبا، وما قيل أنه غير جائز فهو غير مستحيل، وما الذي يمنع أن تخسف به الأرض أو تقع عليه السماء، أو ينحدر إليه رجم من الشهب، أو ينتهك حجاب قلبه، أو يسل البلاء خيط عظامه أو يخالط خوفه كل داء دوي، ثم ما شئت من أو بعد أو.. إلى أبعد حد مما انتهى إليه أهل الفقر في الفقر وأهل الأمراض في الأمراض وأهل الأحزان في الأحزان وأهل المصائب في المصائب، فيذهب العمر باطلا بالذي عليه والذي له، ويجني هذا الإنسان على نفسه من أثر الخوف والطمع ما لا يستقبله أبد الدهر، فلا يهنأ بموجود، ولا يطمئن إلى مرجو، ولا تكون آماله إلا مخاوف مستبهمة لا مأتى لها من الحقيقة، فيجد روح التعاسة في أشياء كثيرة ولا يكاد يصيب العزاء في شيء قليل! وهنا يا بني الحفرة التي يقبر فيها بعض الأحياء ليعيشوا عيشة وهمية، أو ليموتوا موتا وهميا، تلك الحفرة التي يقضي الأحمق شطرا من عمره واثبا في الأوهام بيت شاطئ الدنيا والآخرة حتى إذا انتهى إليها تردى فيها وكان الرأي لو ادخر لها بعض تلك الوثبات....
وأما الحكيم الذي يعرف الحياة كما يمكن أن تكون، ويعرف أن كل حي من الناس فإنما هو حي على شروط لواهب الحياة، ثم للحياة نفسها، ثم لأهل الحياة فهو أدرى بالمصائب من ذلك الأحمق، ولكنه لا يثيرها ولا يبحث عنها ولا يمتلق لها العلل من نفسه ولا يعترضها في غيره، وما نزل منها فإنه يفتح لها من قلبه سبيلا تمر فيه بين العزيمة والجرأة، وإلا فبين الثبات والصبر، وإلا فبين التوكل والإيمان، وما أهون مصيبة تفتح لانصرافها ثلاث طرق واسعة! وهذا الحكيم يجد في محنته لذة تشبه لذة الدرس لمن همه الحكمة واختبار الأشياء ومعاناة خواصها وأسرارها، كأنه في مصائبه في معمل للتجربة والاختراع، فإنما هو يتلقى عن الله ما لا يصيبه إلا هو، وما لا يصرفه عنه إلا هو، وإنما يستعمل رأسه للفهم لا للوهم، وهو يعرف أن علم الله أزلي يسع الأزل كله، وأن الأقدار من علم الله فهي مقسومة على الدهر كله، وأنه هو في جانب الدهر لا يبلغ أن يناله ما تنال الشرارة من ماء البحر إذا انطفأت في البحر.
هذا الحكيم يعرف أن الحياة ليست هي الانتهاء إلى الموت على أي وجه، ولا هي بالهرب من الموت في كل وجه، فهو لا يبالي الموت ولا يخافه، ولا يعبأ بالحياة ولا يرجوها، ولكنه يمشي على صراط من فضائله، وعلى نور من ربه فما دامت فضيلته لا تنكره، وما دام قلبه مطمئنا، بالإيمان، فكل ما بين الأرض والسماء، بين الآخرة والأولى، وهو مادة العزيمة في نفسه، ومادة القوة في روحه، ومادة الابتسام على شفتيه! فإن نزل به هم وأدركه خور الطبيعة وضعف الإنسانية فلم يستطع أن يخلص منه، صرفه إلى جهة غير جهته، واستخرج منه معنى غير معناه، وقابل بين راحة الرضا به وتعب السخط عليه، ونظر في مبلغ شره وما عسى أن يكون حاله لو نزل به ما هو شرمنه، وجمع بين الدعاء لله أن يصرف عن ما وقع، وبين الحمد لله على وقايته مما كان يمكن أن يقع، ثم لا يزال يعالج الهم مستأنياً ربيطاً جأشه تثوب إليه القدرة على نفسه فتسكن إليه النفس من نفرتها وحتى يرى هذا الهم كأنه مما لابد منه في رياضة أخلاقه، وتنزيه شمائله، وكأن صدع الجانب الذي بينه وبين الناس أو بينه وبين نفسه إنما لتقوية الجانب الذي بينه وبين الله.