وليت شعري ما هي هذه الشهوات؟ أما إنها في الحقيقة نزعات طبيعية لا بد منها بمقدار، لأن الطبيعة الإنسانية تعالج نفسها بما يعينها على البقاء وما يجعلها صالحة له على الوجه الأفضل، فهي تغري الإنسان مرة وتؤلمه مرة، وكل ذلك ليجلب لها أو يدفع عنها. فما تسميه لذة من لذات الجسم إنما هو علاج طبيعي من ألم طبيعي لا أكثر ولا أقل ... كالأكل مثلا: فما كانت الطبيعة لتغري به هذا الإغراء حتى فات عند أكثر الناس حد اللذة لولا أن الجوع انحلال في الجسم، فإن هو أسرف عليه أو استمر به أوقع الفساد فيه وركبه بالعف علة بعد علة.
غير أن الإنسان بما فيه من شبه البهيمة ينجذب إلى طبع البهيمة غالبا، ونسي أن للبهائم وازعا طبيعيا وهو فضيلتها الخاصة بها، فأقبل يرتع ما شاء، وجد به الحرص بمقدار ما يطمع فيه، وغلبه الطمع على بصيرته، فلا يكون في إنسانيته إلا بهيمة تتخيل وتتفنن ما لا يتفنن إنسان ولا بهيمة، وما تجد من مستهتر بالشهوات إلا وجدته من أجل ذلك راضيا مغتبطا يتمنى لو أنه في هذه الشهوات بهيمة البهائم كافة!....
أف لهذه الدنيا! يحبها من يخاف عليها، ومتى خاف عليها خاف منها، فهو يشقى بها ويشقى لها، ومثل هذا لا يكاد يطالع وجه حادثة من حوادث الدهر إلا خيل إليه أن التعاسة قد تركت الناس جميعا وأقبلت عليه وحده، ولولا الخوف يزلزل قلبه لأدرك الفرق بين النسمة والعاصفة، وعلم أن اللفظة لا يلزم منها أن تخلق معناها، وأن ليس كل ما نسميه تعاسة يكون في حقيقته من التعاسة.
وترى الواحد من هؤلاء لا يزال يلوك لسانه في كلمات من التأميل والسخط والألم والنفرة وغبرها من مما هو من لغة الحرص على الحياة، فهو على الأرض وكأنه يعيش في سحابة تجري بها الريح، ولعمري كيف تهنأ الحياة مثل هذا إلا إذا كانت أديم الأرض من ورق الزهر، وكانت مزابل هذه الدنيا رياضا غناء، وعدت الطيور الجميلة من كلاب هذه المزابل ... ؟ كذلك لا يسعد أكثر الناس بالحياة ولكنهم يشقون بالحياة والموت، ومن ثم ظلموا التعاسة فجعلوها أصغر مما هي، كما ظلموا السعادة فتوهموها أكبر مما تكون.
قال "الشيخ علي": واعلم يا بني أن القدر وإن كان من السماء ولكن تاريخه ثابت في الأرض، وما كانت المصائب جديدة في الحياة وهذه المحابر التي كتب منها تاريخ الإنسان لا تزال كما كانت من قبل تشرق بالدماء والدموع، ولا يزال الدهر يمد منها ولا يزال يكتب منن هذا المداد، فمم يخاف هذا الإنسان الجديد وليس فيما ينزل به إلا ما نزل بمن قبله، وما هو بخالد ولا بمتروك لما يحاوله، ولقد علم يقينا أن الله لم يخلق فيما خلق مقراضاً يقلم أظفار الموت؟ يريد من قدر الله زلالا صافيا كأنه ماء مرشح يصب من حياته في كأس من البلور ... ! ويبتغي أن يكون في الأرض تاريخا جديدا سلسا منقحا ليس فيه شيء من تلك الألفاظ الجافية في نبوها وخشونتها، ألفاظ التخريب والتدمير والتقتيل والجوع والمرض والأحزان والهموم ونحوها.
فأما أن يكون من ذلك التاريخ القديم الذي تمليه قدرة الله على الطبيعة، ثم لا يكون إلا كالطبيعة نفسها في النظم والنسق ولا يجيء الإنسان الجديد فيه إلا طباقا أو ناسخا أو منسوخا، فهذا موضع النفرة ومكان الأذاة ومنه مثار الهم وإليه مسرب الدموع، وذلك والله معنى إن لم تنشأ منه تعاسة الإنسان فهو على كل من تعاسته.
الإنسان كله يا بني منطو في رأسه، وما هذا الجسم إلا أداة، منه ما يحمل الرأس، ومنها ما يحمل عنه، فالجسم دابة من الدواب لا أكثر ولا أقل، والرؤوس لا يمكن أن توزن بميزان حتى يعلم فرق ما بين رأس ورأس آخر، فالإنسان مختبئ محجب، وكأنه لا يزال منه جزء عند الله فما ينفك يجد من نفسه ما يبعثه على النزوع إلى الغيب والفكر في المستقبل لأن هذا المستقبل تمام له، ولا يبرح يشعر بالحياة شعور المتألم أو المتعب أو المكدود أو المغيظ أو المفزع أو أي ما يكون من أشباهها، لأن هذا الحاضر غير تام به ولا كامل معه، وليس ذلك بعجيب، ولا من العجيب أن يألم الإنسان لحياته، ألا يرى أنه في جسم لا راحة للروح إلا بعد تحطيمه؟