"اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير".
قال "الشيخ علي": وأنت يا بني ما إن تزال تصف الدنيا بلون لا أرى كيف أسميه، فلا هو من وجوه أهل الحسد فأقول أصفر، ولا من قلوب أهل البغض فأقول أسود، ولا من صدور أهل الدم فأقول أحمر، ولا من شيء أعرفه لأنه ليس شيئاً يسمى، وعلم الله أن يهوى في جهنم سبعين خريفاً وعيناه تدوران في رأسه، لا يبصر من حيث ابتدأ إلى حيث ينتهي شراً من وجه دنياك! إنك يا بني تصور الأرض لا أرضاً ولا ماءً بل قلوباً ودموعاً، وتعرفها لا دولاً ولا أمماً بل آلاماً وحوادث، فكأن هذه الأرض العظيمة تحتاج إلى وقدتين من قلبك ومن الشمس، وإلى نعجتين من خيالك ومن الفضاء قدرين من حزنك ومن الأبد، ومن ثم فلا عجب يا بني إن كان مركز الثقل فيها على وهمين: على محورها وعلى ظهرك ...
هيهات لقد أسرفت على نفسك الضعيفة وجعلت هذه الحصاة الهينة تحت مطرقة الزمن فما تزال رخواً منبعثاً مسترسلاً في اندفاق ولين، كأنك رجل من العجين، وكم تقول لي: (فلان) وجاهه عريض. ودهره المريض ...
... وانظر إلى (فلان) كيف جعله الكبر يذكر منا وينسى، وكيف أصبح من الغنى وأمسى..
... (وفلان) كيف تمر من فرج أصابعه سفن الآمال في تيار المال، كأن يده قنطرة على نهر الأقدار، أو جسر تعبره حظوظ السماء إلى أهل هذه الدار ...
... (فلان) قبحه الله! كيف صار شيطانه في إنسانه، وطول عمره في لسانه، وكثرة ماله في قلة إحسانه ...
... (وفلان) أخزاه الله فما بر ولا نفع، بل تفرق بالحرص ما جمع وطمع في كل شيء حتى في الطمع ...
... (فلان) الذي جمع وعدد وخلقه الله واحداً وهو في الرذائل يتعدد وقد انتفخ كأنه شدق إسرافيل، وامتد كأنه يد عزرائيل، واستكبر كأنه فرعون على النيل ...
... (وفلان) وما أدراك ما فلان؟ جبل شامخ والناس في سفحه رمال، ومجد باذخ ولا مجد لمن ليس له مال، وهو في أهل الغنى الألف والباء، وإن قيل في غيره (ابن نعمة) فهو في أهل النعمة أبو الآباء، على رأس عظيم كأنه ركن الكعبة الذي يتوجه عباد الغنى إليه، وقائمة بائنة كأنها لجاه صاحبها قطعة من المحور الذي تدور هذه الأرض عليه، وهناك أنف أما في السماء فله منزلة، وأما في الأرض فعطسته زلزلة ينفض الناس من رهبته نفضاً، ويرش الوجوه من هيبته أرضاً، وكأنه في تلك الكبرياء ميزان معلق يرفع من ناحية ويخفض من ناحية، بل كأنه في ذلك الوجه القفر جحر للنحس تختبئ فيه الداهية! قال "الشيخ علي": وما أنت يا بني وهذه (الفلانات) وأمثالها؟ إن هؤلاء الناس بعض أعمال الله في أرضه، فهو يخلقهم وينشئهم ويديرهم بتعلق طائفة من الأقدار بنتائج أعماله طرداً وعكساً فما أشبههم بدابة الطاحون: تلزم دائرتها ولا تفتأ تدور إلى غير انحراف، فثم هي لعلها حين تسمع ذلك الهزيز وتلك الجعجعة تحسبها من نشيد الاحتفال بها ...
فهم قوم مسخرون فرشهم الله أمراً من أمره، ويسرهم لما خلقوا له، فضربهم بالحرص والطمع ضربة جبار لو نالت السموات والأرض والجبال لأشفقن منها، وجاءهم الحرص بهذا المال، أما الطمع فجاءهم بماذا؟ جاءهم يا بني؟ لو قلت بصدإ القلب وهرم النفس ودناءة الطبع، ولو قلت بكل ما في الحشرات من القذر، وبكل ما في السباع من الضراوة، وبكل ما في الدبابات من السموم لكنت عسى أن أقارب الوصف، ولكن المعنى الذي يتلجلج في نفسي أكبر من ذلك كله.
غير أني أقول لك يا هذا: إن ثلاثة من المتجاورات يفسر بعضها بعضاً: الحرص مع الطمع، ثم المال ورذائله، ثم ما في المعدة وما في الأمعاء ... أتحسب أن هذا العالم يحفل برجل من الأغنياء قد أجحف به الدهر وطحنته النوائب بأرجائها، وجاءه بعد الدنيا المؤنثة يومه المذكر، وتركته الأقدار أسود الحظ لا بيضاء ولا صفراء؟ فلم لا يعدون الغنى شيئاً دون المال ويحسبونه كل شيء مع المال؟ لعل الحقيقة أيضاً ذات وجهين في الناس ... !