المساكين (صفحة 20)

هو المال، المال وحده لا غير، فنحن نحتاج إلى الغني صاحب المال كم نحتاج إلى بائع الملح ... وما أشبهنا في إطرائه وفي الزلفي إليه بأطفال القرية إذ يتزلفون إلى بائع الحلواء التي تلف بالعصا، وإذ هو واقف بينهم بعصاه وحلوائه كأنه الهبل الأعلى، هو- من تعلم- دسم الثوب ترب اليد، قذر التفصيل والجملة، يصلح أن يكتب على وجهه "متحف الميكروبات المصري"، ولو رآه طبيب لجعل عصا الحلواء على رأسه تفاريق، ولكن أين لا أين الطبيب في هذا الاجتماع؟ كل أطباء الاجتماع ألسنة وأقلام ومحابر، أما اليد التي تزيل المنكر أو تغيره فلا أراها تمتد إلا من جانب الأفق ولا تعمل إلا بعون من الله وملائكته، وقد انقضى عصر الأنبياء.

قال "الشيخ علي": فإن لم يكن الغنى إنسانه من الناس يواسيهم ويسعدهم ويتخذ من المال سبيلاً إلى أفئدتهم بالإحسان والمساعفة، ويأخذ لنفسه بقدر ما لها ويعطي من نفسه بقدر ما عليها، وإن لم يكن وجهه مرآة الفقراء يبصرون فيها ابتسام الدهر على وجوههم العابسة، ولم يكن ذهبه عند دموع البائسين وعند أنفاس المحزونين، ولم يكن اسمه في دعوات المحتاجين وفي ألسنة الشاكرين- فقد أصبح عندي كأنه لا شخص له، بل هو شخص له لعنة من لعنات الله والملائكة والناس نفخت فيها الروح، وهي اللعنة أي منقلب تنقلب.

ما أشبه المال أن يكون آلة من آلات القتل، فإنه يميت أكثر أصحابه موتاً شراُ من الموت- إلا من عصم الله- موتاً يجعل أسماءهم كأنها قائمة على ألواح من العظام النخرة، ويرسلها كل يوم إلى السماء في لعنات لا عداد لها، ثم يثبتها في التاريخ آخراً لا بأعيانها ولكن بعددها، أو كما تثبت الحكومة في كل سنة عدد البهائم التي نفقت بالطاعون ... فهذا الشخص الميت وهو بعد في الأحياء لا يبلغ في قدر نفسه على الحقيقة أكثر من مقدار حجمه من ... من.... من جيفة حمار! ...

يا بني! ربما كان الرجل نبات نعمة الله لأنه سيكون حصاد نقمته، فهذه، منزلة من البؤس والخذلان يستعاذ بالله منها، وكم رأينا من أناس تخصب أبدانهم حتى ليضيق بهم الجلد كدنة وسمناً، ويكاد أحدهم ينشق مرحاً ونشاطاً، ثم لا يكون هذا الخصب الذي استمتعوا به شطراً الآخر (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلهم الأمل فسوف يعلمون) وإن خطأ كبيراً أن تقضي لفلان من (فلاناتك) بمتاع الدنيا، فإنك لا تدري أشر أريد به أم الخير، وكيف تحكم ويلك على غناه بفقرك، وعلى آماله بيأسك، وعلى شخصه بظلك، وعلى نهاره بليلك، وعلى عمره كله وهو بعد حي لم يوف عمره ولا تدري ما عسى أن يكونه فيما بقي؟ ألا دعه حتى يستنفد أيامه المكتوبة ويستوفي أنفاسه المقدرة، فلعل مصيبته قادمة في الغيب وكأن غناه مقدماتها، وعلى قوة المقدمة تقاس قوة النتيجة، فإذا مات الغني ولم يعرف في جملة عمره هماً ولا غماً يعدل بؤس الفقر مهما اشتد الفقر، فكفى حينئذ بالموت في جملة من تلك الجملة! وإنما الحياة مدة ستنقضي، فسواء انقطع الخيط من أوله أو من وسطه أو من آخره، فقد انقطع! تقول: إن لهم متاع الحياة! ولو أنصفت لقلت: إن لهم بؤسها الممتع! فإنهم يجمعون المال من طرق لا نؤتيه إلا نكداً ثم يرسلونه في طرق أخرى ليجمعوه، وهلم كما تدور دابة الطاحونة، وهب أنهم لا يألمون كما تألم فإن يد الله غمزتهم من مكان قريب غمزة مؤلمة، وما أحسب الضجر من اللذات قد خلق إلا للأغنياء وحدهم، وناهيك من بلاء يغمر النفس بالنعم صنوفاً وألواناً حتى يتنكر لها معنى النعمة فتراها وقد ثابر عليها الضجر متكرمة ولكن لا تريد الكراهية، ومتسخطة ولا ترغب في السخط، ومتألمة ولا تعرف مم ألمها، ولا تبرح دائبة تلتمس نعمة لم يخلقها الله، لتحدث منها لذة لم يعرفها الناس.

ولولا هذا البلاء، وأنه ما وصفت لك، لما أصبت على الأرض غنياً كهؤلاء الوارثين: تضرب به كل لذة وجه أختها فتسلمه الواحدة إلى الأخرى ويجذبنه بكل حروف الجر، من وإلى وفي وعلى، بين الخمر والقمار أو القبر! ولو أن (ضجر اللذات) يصنع بكل الأغنياء هذا الصنع لفسد الكون، بيد أن الله أراد عمرانه فجعل في طباع أكثر الأغنياء لؤماً خاصاً، لؤماً ذهبياً يكسر من سورة هذا الضجر، كما يفثأ الماء البارد من الماء الحار حين يمتزجان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015