- سيدتي! ألا فاجعليني من نصيبك في الإحسان وغيري من الفقراء له غيرك من الأغنياء، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره! - إذا فكوني أنت من نصيب غيري ودعي غيرك لي! - سيدتي! ليس فقري عن خطأ مني وليس غناك عن صواب منك، وما الرزق يا سيدتي من فضل الحيلة! - وهل أنا أريد أن أعاقبك فتنتفي من الأخطاء؟ - رحماك وأتقي الله في الإنسانية، فلعل في قصرك الباذخ كلبة جعلتها أحسن حالا مني! - حينما تصيرين مثلها فتعالي إلينا ويومئذ تعرفين كيف تطرد الكلاب!.
قال "الشيخ علي": فكبر ذلك على الفتاة وانتبهت في نفسها فضيلة الفقر وحكمته، فرأت أنها تنظر من ضمير تلك السيدة في مرآة مقلوبة من مرائي الإنسانية، مهما جهدت أن تستقيم لها لم تزدها إلا مسخاً، هنالك غلبتها عيناها وانطلقت وراء دموعها ولم تجد لها عزماً.
أما السيدة الكريمة- كما يقال - فابتلعت ما بقي في فمها من تلك الفلسفة، وافتر ثغرها قليلاً عن ابتسامة السخرية، وسرها أن يكون في لسانها كل هذا المنطق ... ثم أنغضت رأسها بكبرياء وقالت: "مسكينة! مسكينة! " ومرت بعد ذلك لا تلوي وما يخطر لها إلا أنها نفضت نعلها ...
وسمع الله قولها إذ تجادل الفتاة وقد ربت في ثيابها من الغيظ وتنفشت كالإسفنج، فأطلق عليها دموع البائسة، وإن هذه لتأنس راحة في البكاء لم تعهدها من قبل، فانزوت إلى جانب من طريق وجعلت تبكي، ثم تبكي، ثم تبكي، حتى لو جمعت دموعها لغمرت منها، وقد جمعها الله وأرصدها من أقداره لتلك الإسفنجة وقضى ربك ألا تعصر بعد اليوم إلا دموعاً.
كانت للسيدة فتاة كطلعة البدر في الرابعة عشرة، لا تصفها إلا مرآتها، وهي الدنيا مجموعة في قصرها، وكأنها في النعمة مستقبل نفسها وماضي أمها، وكانت هذه السيدة عقيماً ولكن شذت معها الطبيعة لأمر أراده الله فولدت لها الفتاة وكأنما انشق لها القمر، ولم تذكرها في نفسها إذ كانت تحول تلك المسكينة بل ذكرت خادمتها وأنفت لهذه الذكرى. ومن شؤم الغنى على أهله أن لا يذكرهم في الشر إلا بأنفسهم، ولا ينسيهم في الخير إلا أنفسهم، فلا يعلمون أن الفقر أنواع كثيرة، وأن الغنى نفسه نوع من الفقر إلى الله، وبذلك ينظرون إلى المساكين تلك النظرة التي لا تخلو من بعض معاني القضاء والقدر. كأن الألوهية درجات جعلهم الغنى في واحدة منها، فما ظنكم أيها الأغنياء برب العالمين؟ وانكفأت السيدة إلى قصرها فإذا فتلتها تنتفض من وعكة الحمى، وهي في سريرها كقلب أمها في اضطرابه والتهابه، وما تعلم من أين اتصلت بها الحمى ولكن الله يعلم، ولئن كان البعوض مما يعد في أسباب هذا المرض فلقد كان كلامها للفتاة ينفر منها كما ينفر البعوض من مستنقع ... فخرجت المرأة عن رشدها وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ولقد تكون المصيبة جنونا وإن لم يكن من أسمائها الجنون! على أنها لم تر ملجأ من الله إلا إليه فابتدرت تدعوه! وضرب الذهول بينها وبين اللغة ومسحت من وعيها فلا تردد غير هذه الكلمات. يا رب! يا رب! ابنتي ماذا جنت؟ "مسكينة! مسكينة! "، "مسكينة! مسكينة! ".
وجاء الطبيب كأنما أطلق في قنبلة مدفع ضخم ... فأسرعت إليه وهي تقول: ابنتي ابنتي أيها الطبيب "مسكينة! مسكينة! " ثم مرت أيام وبنتها مريضة وهي مريضة ببنتها، فكانت كلما نظرت إليها ملتهبة ذاوية تتخايل الموت فيها لم يجر الله على لسانها غير هذه الكلمات: آه يا ابنتي! "مسكينة! مسكينة!.
قال "الشيخ علي": وضرب الدهر من ضرباته وخرجت الفتاة البائسة ذات يوم وكانت قد أصابت عملاً فتردم جانب من حالها، وبينا هي تمشي مطمئنة رفع لها شبح أسود في عرض الطريق، فجعلت تدانيه حتى حاذته، فإذا هي بسيدة الأمس وقد حال لومها، واستحال كونها، وعادت من الهم كأنها ظل منصب في سواد، وظهرت من الحزن كأنها تمثال منصوب للحداد، وهي تلوح من الذلة والانكسار كأنما مات بعضها، وكأنما كانت حياتها من الأزهار فذهب ربيعها وروضها، وبقي جذرها وأرضها! فما تبينتها الفتاة ورأت ما نزل بها حتى نفرت دموعها حزناً، ثم رفعت عينيها إلى السماء وقالت: يا رباه! "مسكينة! مسكينة! " ...
كذا يضع الإنسان الكلمة لمعاني الله فيكذبه بمعانيها، ويا رب كلمة ملفوظة وفيها الله كلمة غير ملفوظة!.