وانطلق الطفل وهو يلوي رأسه ويفكر في أي خديه تقع عليه اللطمة الأولى من أمه، لأنها لا محال متوعرة به، ستحسبه أقترف إثما فطرد من عمله، وانقطعت به طريق أمله وإلى أن يأتي الله بالصبا الذي ينير برهانه، ويثبت لها إحسانه، يكون هذا الليل، قد صب عليه الويل، وهكذا جعل يشهد الله على ما سيلقاه في سبيل الخير، بدلا من أن يشهد الناس على ما لقي غيره منه في هذا السبيل من إحسانه وإيثاره، لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! ولما أمسكت عليها النفس وراجعت الحياة بدا لها فيما اعتزمته من الانتحار، فترددت وجعلت تساورها الظنون، وخلق لها من معدتها عقل جديد يبصرها فرق ما بين الجوع والشبع، وكذلك تعرض لبعض الناس حالت من الحرص يعقلون فيها ببطونهم، حتى إن أحدهم لو تحسس رأسه وهو يفكر لحسبه بطنا صغيرا من العظم ... فأنشأت الفتاة تستقيم على طريقها وهي تؤامر نفسها على الحياة والموت، وقد بدأت تهضم في معدتها الطعام والعزيمة جميعا، ومات الذي كان بينها وبين الموت! وبينا هي تسير نظرت في عرض الطريق سيدة لو لبس معنى الغنى لفظا ما لبس غير اسمها، ولو كان للكبرياء رسم ما رأيته غير رسمها، وقد أورثها الغنى ذلك الغرور بنفسها، حتى توهمت أنها في الأرض أخت شمسها، وبلغت في النعمة من الحق والبطر، بحيث جعلت نفسها كالسماء متى تعبس وجهها استهلت لعناتها كالمطر، وهي من أولئك اللواتي يخرج الغنى معهن في الطريق لا حارساً ولا منعماً ولكن للكيد والفتنة، فتنة المساكين وكيد الحاسدين، فخرجت في زينتها وكأنها حانوت جوهري ... وهي نصف من النساء ولكنها تتصابى، فكأن في وسامتها وابتسامتها شباب عشر فتيات جميلات!..وقد ذهبت في أوضاع جسمها مذاهب هندسية بين المستدير والمستقيم والمنحني ... حتى ظهرت كأن نصفها من الله ونصفها من الخياطة ... وإذا رأيت جملتها رأيت روضة الجمال بألوانها وأزهارها، ولكن مصورة، فإذا انتهيت إلى وجهها رأيت للحسن هناك شهادة على الله ولكن ... مزورة....، وعلى الجملة فقد جعلها حسنها المالي في رأي نفسها كالشرائع: لا جدال فيها إلا من زنديق ...
ورأتها الفتاة كما تنظر المرأة إلى المرأة بعين جامدة ليس فيها لغة ولا فلسفة ولا شعر، فقالت: يا لها من سعادة أن تكون هذه العجوز لا تتقدم في عمرها إلى الأمام ولكنها ترجع إلى الوراء، وأن تظهر بين الناس حسناء وإن كانت من القبح بحيث ذهب نصف نهارها في التحسن، وأن لا تجد من هموم الدنيا أكثر من هم الألفاظ إن قال الناس غير حسناء أو قالوا غيرها أحسن منها! ويا له من شقاء أن تكون هي كما هي وأكون أنا كما أنا! ثم رمت بعينها إلى السماء وانحرفت تواجه تلك السيدة، فما تبينها هذه وألمت بما في نفسها حتى انقبضت كأنما أثارت الأرض في وجهها دابة جامحة، وجعلت تتحاماها وتلوذ ههنا وههنا وتحتث قدميها كأنها لقاء خطر شديد، غير أن الفتاة ملئت عليها الطريق بحركاتها فكانت وجهها كيف أمت وانحرفت يمنة ويسرة وكأنما تطاردها مطاردة!.
فلما عيت السيدة بأمرها وغاظ الفقر نعمتها وهاج فضول الفتاة حنقها وكبرياءها، وقفت لها وقفة القضاء عابسة الوجه شامخة الأنف يكاد يستنفض الناس طرفها وتكاد تميز من الغيظ، وتدل هيئة وجهها على أن وراء شفتيها المرتجفتين كلمات أحد من أنياب الوحش! فلم تبال الفتاة وبقيت رئتاها واسعتين للهواء وبقيت رئتاها واسعتين للهواء ذ ليس بعد الفقر خوف، ولفت إليها باسطة اليد وهي تكاد تزلقها ببصرها، حتى إذا وقفت بإزائها خفضت رأسها وقالت: - سيدتي! أدام الله نعمته عليك وهناك هذه النعمة بدوامه! - هي دائمة، وما أنت والنعمة؟ - سيدتي! وقال الله ما أنا فيه من بأساة الحياة ولا كتب عليك أن تعرفي ما هي! - فلماذا أنت وأمثالك في الحياة إذا أيتها الحمقاء؟ وهل يكتب تاريخ البؤس إلا في صفحة من مثل هذا الوجه؟ - سيدتي! ألا مهلا مهلا وانظري إلي ينظر الله إليك! - قد نظر الله إليك من قبلي! - سيدتي! هبيني خادما أحسنت إليها! - فلتكوني خادمة طردتها إن بلغت أن تكوني خادما مثلنا! - يا ويلنا! ألا رحمة في قلبك فتجودي علي بما لا بأس عليك منه؟ - ولماذا أفضلك على سائر الفقراء؟ ينبغي لأن أجود عليهم جميعا إذا أنا جدت عليك، ولو فعلت لطلبت بعد ذلك من يجود علي!