في رأسها عقل زاد الله ورحمته في جهة منه ونقص عنف الناس وقسوتهم من جهة أخرى، فبينا هي على ذلك تحمد الله، 'ذا هي مع ذلك تلعن الناس، وهي في مرة تنظر على الحياة فترى كل شيء في الحياة إلا نفسها، ومرة تنظر إلى الموت فلا ترى في الموت شيئا إلا نفسها، ولم يمسك روحها بين الاثنين إلا خيطان: أحدهما من السماء وهو الأمل في رحمة الله والآخر من الأرض وهو إشفاقها على جثتها التي كانت تكدح منذ الصغر لقوتها، تلك الجدة الفانية التي كبرت وبلغت من الكبر حتى حسبتها الفتاة قد كبرت سن الموت.
أما الآن فقد تبين لها الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وانصدعت حفرة جدته المسكينة ولم يبق لها إلا رحمة الله.
قال "الشيخ علي": وكان خروج هذه البائسة أصيل يوم من أيام الصيف ذهبت فيه طاوية على الجوع كما تغدو الطيور من وكناتها وملء بطونه هواء، غير أن الطيور تهزأ بالناس جميعا، وهي على ضعفه أقوى من الشرائع والقوانين، إذ تنبعث وكأن كل طائر منه إرادة متجسمة تقذف بها السماء فما تبالي على أي أرض تقع ومن أي حب تلتقط، ولا تعرف إلا أنن هذا الإنسان يعمل على السخرة ليخرج لها من الأرض رزقها رغدا......
... أما الفتاة فكل الناس يهزأ بها، وهي ترى كل إنسان على ملكه كأنه قانون وضع لعقابها إذا حدثتها النفس حديثا، فقد بلغت من الضعف والمرض والفاقة إلى حال لا تجعل يديها تصلحان لعمل غير الأخذ، فإن اختلست قيل سارقة فعوقبت، وإن سألت قيل لها متشردة فكذاك! ويا ليت في قلب هذا الإنسان من معاني الصفح بعض ما في لسانه من ألفاظ القصاص، ولكنه حيوان متكلم فتنصرف فطرته الحيوانية أكثر ما تنصرف إلى لسانه، كما تتمثل هذه الفطرة من سائر الحيوانات في حواسها التي تبطش بها، وكلا النوعين سواء في الافتراس والكلب والتوحش، فما اللسان إلا حاسة البطش العاقلة ... وقلما يؤذي الإنسان قبل أن يؤذي بهذا اللسان.
ولم تر المسكينة أروح لنفسها المكدودة من الانتحار، وكأنما يخال لها أن في الموت عيشا، فخرجت تمشي بين الناس إلى قبرها كأنها فيهم جنازة وهم يشيعونها، ولئن كانت لم تسر بالحياة فلقد سرها أن ترى تشييع جنازتها وهي حية تموت، ولا أقول وهي حية ترزق، فإن العلة النازلة بها قد أخذت عليها مذاهب الرزق حتى لم تترك لها في الناس "وجهها"، وقبضت عنها الأيدي إلا تلك اليد الواحدة التي تأخذ دائما ولا تعطي أبدا....وهي يد الموت! وإنها لتنفتل وتلتوي على أحشائها من رجفة الجوع، وما تأخذ عينيها من الناس إلا من يحمل بطنه حملا من شبع وري، فكان نظرها إلى الناس أمض عليها من الفكر في نفسها، وكأنها تقتل من جهتين.
وكذلك أخذت سمتها إلى طريق النهر، وأمضت نيتها على الموت غرقا، لتموت نظيف، وتكون لنفسها غاسلة، وترسل روحها المتألمة إلى السماء في دموع السماء! ومشت تتساقط كأن الجوع والمرض يهدمان منها في كل عثرة ركنا، أو كأنه كتب على كل بائس أن يموت في طريقه إلى الموت، وهي تنتهض من كل عثرة إلى أشد منها كما تتخطى العنكبوت في نسجها من خيط واهن يكاد ينقطع إلى خيط أوهن منه، وقد اجتمعت روحها في عينيها فهي تسيل على نظراتها الشاردة، وكلما امتد بها المسير قصرت مسافة النظر حتى توهمت أن الموت بادئ من عينيها، وأنها كذل إذ لمحها طفل قروي قد انقلب من المدينة إلى الضاحية التي غادر فيها أمه العمياء، وكان يعتمل طوال يومه في بعض المصانع أو هو يحمل طعامها الذي لم ينله إلا ببيع نفسه يوما كاملا، على أن المسكين لا يحس من الذل أنه اشترى نفسه بمقدار ما يحس من العزة أنه ابتاع إداماً ورغيفين وقطعة من الحلوى.
قال الشيخ علي: وبصر هذا الطفل بالفتاة، وأدرك أن روحها تخطو في أنفاسها، وأن الجوع لا غيره وهو من أبنائه، طالما شد عليه حتى انطوى، ولان لغمزاته حتى التوى، وما يعرف أنه ابن أبيه وأمه، وأكثر مما يعرف أنه ابن فقره وهمه، فابتدر إلى المسكينة، وكانت حركة الحياة فيها أسرع من حركة أضراسها في طعامه، ثم ذهب لا يعرف ما صنع..لأنه طفل؟ أو لأنه فقير؟ لا أدري! غير أني أعرف أنه لا يسلم من لؤم النفس في صنعة المعروف وتطويل المن به وتعريض الحديث فيه إلا للأطفال وإلا للفقراء، أولئك لأنهم لا يستكثرون الخير، وهؤلاء لأن الخير منهم غير كثير.