غير أن هذه الوسائل على اختلافها لم تكن ولم تزل إلى عهدنا عهد الاشتراكية العلمية إلا ثورات هي مهما كانت فإنها أشبه شيء بجموح الحيوان إذ يحمي أنفه فيجمح ثم يسترسل في جماحه ثم يشتد حتى يعتز صاحبه على رأسه ويملك نفسه منه، ثم ماذا؟ ثم يسكن مكرها بعد أن جمح راضيا، فإن لم يسكنه الألم من صاحبه أسكنه التعب من نفيه، لا يكون بالتخلص من إنسان بعينه.
ومن هذا يا بني ترى أن الإنسان لا يعيش فردا ولكنه حين يموت يموت فرداً، فإذا رأيت فقيراً منبوذاً من الاجتماع منفرداً عنه، لا يساهمه في علمه وعيشه، بل كأنه يعيش في بقعة مجهولة من الحياة، فاعلم أن إهمال ذلك الفقير إنما هو نوع من القتل الاجتماعي.
ههنا قاتل ومقتول: لم يأخذ القاتل بحق من الحقوق ولا ثأر لنفسه ولا قتل بيده، أما المقتول فإنه لم يقتل في إثم اجترحه ولا هو جنى على نفسه الضعف الذي أرهقه وبلغ منه حتى جعل إهمال القوي إياه كأنه حكم عليه بالقتل، فترى على من تكون هذه التبعة، وهي بالتحقيق ليست على القوي لقوته ولا على الضعيف لضعفه؟ هناك اثنان: رجل في الماء وآخر على الشاطئ، فأما الذي في الماء فليس بينه وبين الموت غرقا إلا نفس واحد مبتل ينسل بالماء من حلقه إلى رئتيه وهو يرى بعينه الموت دائبا في حفر قبره المائي، فليس الموج الذي يتكفأ به ويتناثر من حوليه إلا ما تثيره يد جبار الموت من غبار ذلك القبر وتحثوه في وجهه بنزق وغضب، بعيد عن الأحياء حتى بعد عن أن يكون له قبر بينهم ولا صلة بينه وبين الحياة الأرضية إلا نظرات ذلك الرجل القوي الذي يتراءى في عين الغريق كأنه صخرة راسية على الشاطئ لها قوة وليس لها إرادة، ولكن هذا الذي يشعر بصلابة الأرض تحت قدميه ويحس القوة من يده وعضلاته، يشعر أيضا من بمعنى من الصلابة في قلبه وقد جاء إلى الشاطئ ليتنفس من تلك النسمات التي يتنهد بها صدر السماء فتكون أرواحا للأمواج تبعث فيها حركة الحياة. ما له ولهذا المنظر؟ سواد يطفو على الماء كأنه هنة من المتاع الخلق أو حذاء قديم أو ريش تحسر عن طائره، أو رأس رجل يغرق، وما دفعه بيده إلى الماء فيكون حقا عليه أن يستنقذه، ولا كان الغوص من صناعته فيعتمل في إخراجه ليخرج معه أجر عمله، وهو قوي ولكنه قوي لنفسه لا للضعفاء، وقد جاء ليروح عن نفسه، وإنقاذ الغريق عمل آخر، وربما أنشبه في حلق الموت ... أخذ فيما جاء له وما زال يموج في جلده ويتنفس ملء صدره من الهواء ومن زفرات الإنسانية التي تنشق لها غيظا، ومن لعنات ذلك الغريق الذي بدأت حياته تذوب كما ينماث في الماء حتى آن له أن ينصرف وترك الرجل يغرق وهو يقول: لا بأس أن ينقص عدد أهل الأرض واحدا فهم كثير!....
ترى على من تكون هذه التبعة أيضا؟ إذا أردتم أن تعرفوا ذلك فإنكم تستطيعون أن تحققوه بدون أن تكونوا شرطة أو قضاة أو أهل قانون أو رجال فلسفة، ولكن بأن تكونوا من ذوي الإنسانية فقط، فإن الإنسانية لا ترى في الأرض إلا الضمائر، وما هذه الأجسام إلا أدوات صناعية ركبت هذا التركيب لتصلح لحياة الضمير، فالرجل قد مضى بريء اليد، بريء القوة، بريء العقل، إذ هو لم يقتل، ولم يجن على القتيل، ولم يحتل لقتله، ولكن الإنسانية حين تنادي الضمائر بأوصافها فتقول: أيها الطيب، وأيها الكريم، وأيها الشقي السافل، تصيح بضمير هذا الرجل قائلة: أيها القاتل! ...
إذا لم يقر الأغنياء لأنفسهم بالضمائر ولم يلحقوا بها التبعات التي تناسبها فهل هم في ذلك إلا كالمجانين لا تقر لهم الشرائع بالعقول وتخيلهم من تبعة ما يجنون على العقلاء لأنهم مجانين؟....وكيف ترى ذلك الغني الفظ الذي يهر في وجوه الفقراء ويزمجر عليهم كأنه ينبحهم بلغة من لغة الكلاب ... ولا يفتأ يقذفهم بالألفاظ الجاسية المؤلمة كما يقذف المجنون بالحجارة ... وإذا أعطاهم فإنما يعطيهم بقضية فارغة ... وهو لا يوقر أبدا إلا من فوقه، كأنه لا يرى في الدنيا كلها أسفل من نفسه ... ولا يبالي إلا بمن يطمع فيه كأنه جالس في (مكتب أحد المخدمين) ..وقد تساوي في الدناءة والكلف بالدنيا وقذارة الطباع ظاهره وباطنه كأن ضميره لبسه مقلوبا ... وصار أمر رضاه وغضبه وإحساسه وحيائه موقوفا على ما يكون من أمر المعاملات، كأن أخلاقه ليست في نفسه ولكنها في أيدي الناس، فليس مثل الغني الدنيء رجلا عاقلا؟