من الذي ولد وفي يده قطعة من الذهب؟ ومن الذي مات وفي يده "تحويل" على الآخرة؟ لقد وسعت الخرافات كل شيء إلا هذا، فما لنا نتخذ في البدء والنهاية ثم نختلف في الوسط؟ ذلك لأن بدءنا من طريق الله ونهايتنا في طريق الله، ولكن الوسط مدرجة بيوتنا ومصانعنا وحوانيتنا، وبكلمة واحدة هو طريق بعضنا إلى بعض....وحينما التقى الإنسان بالإنسان فإما أن تلتقي المنفعة بالمنفعة وإلا المنفعة بالمضرة، فلا بد من انتفاع أحدهما أو كليهما، ومن ثم يقول البخلاء: ما الذي ننتفع به من رحمة الفقير؟ وماله يريد أن يتحيفنا كأنه روح الجدب، وأن يتعر قنا كأنه روح المرض؟ وماله يريدنا على أن نسيء من أجله المس في أموالنا كأنه روح الإفلاس؟ أو لا يكفيه أننا لا نرزؤه شيئا، وأننا نفضل عليه فتعتد الدرهم الذي نمسكه عنه كأنه درهم أخذناه منه، وبذلك لا يضرنا ولا ننفعه بشيء، ومن الجهة الأخرى لهذا القياس يكون قد نفعنا ونفعناه بلا شيء....؟ قاتل الله البخل وقبحه، فما هو إلا حرص على المنفعة يشبه عبادة الوثنيين لكل ما توهموا فيه المنفعة، وإن كان للحواس نوع من الكفر بالله فكفر اليد في إمساكها، وإن الله لرحيم إذ لم يعاقب البخلاء بما يعاقبون به الناس، فليس بين كل بخيل وبين الهلاك إلا أن ينقل الله "الإمساك" من يده إلى جوفه!..على أن البخل إذا لم يكن بقية من الوثنية القديمة بعينها فهو على كل حال نقص من الإيمان، لأن الله وعد المحسنين والمتصدقين ثواب ما أنفقوا مكفأة على فضيلة الإحسان، ثم أن يخلف عليهم ما أنفقوه أضعافا مضاعفة، إذ المحسن لا يجود بدراهمه على الله ولكنه يقرضه إياها قرضا حسنا متى وضعها في يد الإنسانية الفقيرة، فمن أمسك عن الإحسان بخلا فإنما يشك في وعد الله، وإلا ففي قدرة الله، وإلا ففي الله نفسه، فأكبر البخل عند أكبر الكفر وأصغره عند أصغره، ويوم يخرج الإيمان من قلوب الأغنياء تخرج أرواح الفقراء من أجسامهم فيموتون بالجوع والعري وبالمرض وغيرها من أسباب الموت، وكلها مظاهر متعددة لسبب واحد هو في الحقيقة كفر الأغنياء كفرا في الضمير لا كفراً في اللسان.
ومن هنا يا بني لا تجد الفقير في أي من العصور إلا جهة من الخلل في نظام الاجتماع الإنساني، كما أن البخل جهة من الخلل في نظام النفس الإنسانية، والفراغ الذي يجده الفقير في بيته إنما هو موضع النعمة الضرورية التي بخل بها الغني، وهو في الحقيقة موضع التفكك أو الكسر في الآلة التي تديرها شريعة الاجتماع.
الإنسان إنما خلق اجتماعياً، وهو بشخصه لا قيمة له ولا منفعة إلا حيث يكون شخصه جزءاً من مجموع، لأن اليد الواحدة في الجسم ولو كانت يد ملك وكان فيها زمام العالم، فإنها لا يفارقها عيب أختها المقطوعة.
وكل خلل في النظام الاجتماعي فإنما مرده إلى طغيان بعض الأفراد وجنوحهم إلى أن تكون شخصية الواحدة منهم من الكبر والعظمة بحيث توازن المجموع كله أو أكثر المجموع، إن هذه الموازنة الفردية متى اتفقت كانت إخلالا بالموازنة الاجتماعية، لأنها تجعل كل حركة من هذا الفرد زلزلة في المجموع، كالثقل في إحدى كفتي الميزان، إن خفت سقطت الكفة الأخرى وإن ثقل شالت، وهو السقوط إلى فوق! ...
والموازنة الاجتماعية لا تتهيأ إلا إذا تطبعت قوى المجموع فاندفقت في تيار واحد إلى جهة معينة، ولكن الموازنة الفردية لا تستقيم إلا إذا جاءت من عكس هذه الجهة، فتصد قوة المجموع وتبقى دائما ذات قوة على صدها من الغلبة، فإن ضعف خصمه يعطيه منها أكثر مما تعطيه قوة نفيه، ولا يكون ضعف المجموع إلا من حصر الشخص العظيم قوة عقله ونفسه وضميره في هذا السبيل الفردي، لتكون منه الشخصية الهائلة التي تشبه ما كان في تاريخ الوثنية من شخصيات الآلهة وأنصاف الآلهة.
وقد أضطر الناس لذلك من عهد اجتماعهم في نظام أو شريعة إلى ابتداع الوسائل للتوفيق بين قوة الفرد وقوة المجتمع، حتى لا يستشري الداء في الموازنة الاجتماعية فيفسدها ويوقع الخلل في نظامها، ولكيلا تكون خيرات المجموع كلها في معدة واحدة، وحتى لا يبقى الناس أرقاما يعدهم الغني المستبد كما يعد دراهمه لأنهم ثروته الحية!