بلى، وإنه لأعقل من كل من يمدحه ويزكيه ولو كان هذا المثنى عليه أكبر علماء الاقتصاد، ولكنه على ذلك مجنون الضمير بحيث لا يعقل إلا بحواسه! ولو أنصفت القوانين لما لبست مثل هذه الحرية الإنسانية على رذيلتها، ولجعلت من نصوفها القاطعة ما يكفح مثل هذا الغني ويتلقاه بلجامه، لأنه في الحقيقة ليس رجلا ولكنه دابة اجتماعية! قال "الشيخ علي": ومن بديع حكمة الله أنه وضع للإنسانية أصلاً من أصول نظامها في ضمير الإنسان فترك له أن يقترف ما شاء من الإثم والمنكر ولكنه جعله من الإحساس بطبيعة الخير والشر بحيث يكون له من الذنب نفسه العقاب على الذنب، حتى إن شر المجرمين ليستعين على مقارفة جرمه بإقناع الضمير بدياً وأخذه بالحجة من هواه، فيخطر في نفسه ما ينزو بها، كالشجاعة والنخوة، أو ما يتوهج بروح الغضب في دمه، كالانتقام ونحوه، وما يطمئن له الضمير في معنى الجناية، كمدافعة الضرر وما إليه! وبالجملة فإن أول ظلمه عدلاً أو شبيهاً بالعدل، حتى لا يلتوي عليه أمر نفسه إذا خذله ضميره، فإن اضطراب هذا الضمير يتصل اتصال الكهرباء بأيدي المجرمين فإذا هو فيها شلل، وبأرجلهم فإذا هو زلل، وبنظامهم العصبي فإذا هو خلل، وبعقولهم فإذا هو المس والخبل، وإذا لم يفلح الجاني في إقناع ضميره أو التلبيس عليه تخلص منه ففصل بينه وبين العقل بالسكر وما هو حكمه حتى لا يشهد من أمره شيئاً.
أفلا تجد في تخدير أكثر المجرمين لضمائرهم ساعة الجناية دليلاً على أن الضمير الذي يشهد الذنب إنما يتلقى العقاب عليه؟ ولماذا تدفع الجريمة على الجريمة غالباً؟ أليس ذلك لأنها إنما تقتضي عقابها الطبيعي؟ ثم ماذا يكون بعد أن يضرب الشقي تلك الحاسة الروحية التي نسميها الضمير ويرميها بالشلل- إنه ينحط درجة واحدة، ولكنها درجة الضمير التي لو جازها الحيوان لصار إنساناً، ولو نزل عنها الإنسان لعاد حيواناً، فلا يبقى فيه من ثم إلا الفطرة الحيوانية التي تجعل عقل الحيوان مرة في القوة ومرة في الضعف، فإن أحس القوة على خصمه كان العقل في الظلم بكل ضروبه وأشكاله، وأبى هذا العقل الحيواني أن يترخص في شيء هو من حقه بالقوة، وإن أحس من نفسه العجز والضعف ورأى أن لا قبل له بخصمه فكفى باتقاء الظلم عقلاً ...
يا بني! إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادة وراحة، لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئاً إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة.
والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو حكماً بمقدار ما يمنع.. بضعة دراهم، أو بضعة دنانير، ولكنه يزيد ضميره جفاءً بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعور بالخير فيفقد معه كل شعور بلذة النفس التي أقرب المعاني إلى مغنى السعادة ...
... ويومئذ لو اشترى كل لذات الدنيا بماله ما زادته إلا ألماً من الضجر وضجراً من الألم، لأنه فقد قوة من ضميره تقابل القوة التي يفقدها المريض من معدته.
فلينظر الفقير الجائع وقد أخذه كلب الجوع وسطع في عينه وهجه ودارت به معدته ذات اليمين وذات الشمال- إلى رجل غني ممعود في كفه معنى الحياة وفي جوفه معنى الموت، وقد ابتاع مما تشتهيه معدة خياله التي لا تشبع لأنها لا تنال شيئاً، وأسرف بالمال في حتى استجمع الكثير الطيب، ثم انقلب إلى داره بعين من ذلك الذئب تكاد أشعتها تنضج الغذاء من حر نظراتها إليه.
... سلوا صاحبنا الفقير يقل لكم أي لذة يا قوم تكون في غير هذا الطعام يقتل به داء البطن وتنفتق عليه الخواصر شبعاً وسمنة. وهل هذه إلا روح مائدة من موائد الجنة، فيها ما تشتهي الأنفس وتقر الأعين؟ ثم سلوا الممعود المسكين يقل لكم وهو صادق صدقاً يتمنى بما ملكت يداه من الدنيا لو أنه كذب، يقل لكم: تالله ما أجد في هذا كله ولا في بضعه من لذة ولا سعادة، ولو أبحته جوفي لكان الموت بعينه!