هذا وكان للمجنون أبنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه فوقف عليهما يوماً وهما جالسان فقالا: يا أبا المهدي ألا تجلس، قال لا بل أمضي إلى منزل ليلى فأترسمه وأرى آثارها فيه فاشفي بعض ما في صدري، فقالا له: نحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى فوقف بها طويلاً يتتبع آثارها ويبكي، ويقف في كل موضع منها ويبكي ثم قال:

يا صاحبيّ ألما بي بمنزلة ... قد مر حين عليها أيما حين

لا خير في الحب ليست فيه قارعة ... كأن صاحبها في نزع موتون

إني أرى رجعات الحب تقتلني ... وكان في بدئها ما كان يكفيني

إن قال هذا له مهلاً فإن لهم ... قال الهوى غير هذا القول يغنيني

ألقى من الحي ثارات فتقتني ... وللرجاء بشاشات فتحييني

الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه: وقال هشام بن الكلبي عن غبن مسكين أن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر بن عقيل يقال له معاذ وكان يدعى المجنون وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير فمرّ بإمرأة من بني عقيل يقال لها كريمة وكانت جميلة عاقلة معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى الجلوس والحديث وعليه حلتان فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل يحدثهن وينشدهن وهنّ أعجب شيء به فيما يري، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم، فلما رأى ذلك من فعلهن غضب فقام وتركهن وهو يقول:

أأعقر من جرّا كريمة ناقتي ... ووصلي مفروش لوصل منازل

إذا جاء قعقعن الحلي ولم أكن ... إذا جئت أرض صوت تلك الخلاخل

قال: فقال له الفتى: هلمّ نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك ثم ما شئت فأفعل. وقال:

إذا ما إنتضلنا في الخلاء نضلة ... وإن يرم رشقاً عندها فهو ناضل

وقال إبن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضاً لهن فألقى ليلى جالسة بفناء بيتها وكانت معهن يومئذ جالسة ود علق بقلبها وهويته وعندها جويرات يحدثنها فوقف يهن وسلم فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره قال: أي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس. فأرادت أن تعلم لها عنده مثل ما له عندها فجعلت تعرض ن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه وأستملحها. فبينا هي تحدثه إ أقبل فتى من الحي فدعته فسارّته سِراراً طويلاً ثم قالت له إنصرف.

ونظرت إلى وجه المجنون فرأته قد تغير وأنتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:

كلانا مظهرٌ للناس بغضاً ... وكلٌ عند صاحبه مكين

تبلغا العيون مقالتينا ... وفي القلبين ثم هوى دفين

فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة فأغمي عليه، فمكث ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق. وتمكن حب واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.

حدثني عمي عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال: حدثنا أبو العالية عن أبي تمامة الجعدي قال: لا يُعرف فينا مجنون إلا قيس إبن الملوح، قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك ليلى قال: طرقتنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم فبعثني أبي إلى منزل أبي ليلى وقال لي أطلب منه أدماً، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به فقال: ما تشاء، فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا فأرسلني أبي نطلب منك أدماً، فقال: با ليلى، أخرجي إليه ذلك النحى فأملئي له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث فألهي بالحديث وهي تصب السمن وقد إمتلأ القصب ولا نعلم جميعاً وهو يسيل حتى إستنقعت أرجلنا في السمن.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015