أخبرني بعض الشاميين قال: دخلت أرض بني عامر فسألت عن المجنون الذي قتله احب فخبروني عنه أنه كان عاشقاً لجارية منهم يقال لها ليلى ربي معها ثم حجبت عنه فأشتد ذلك عليه وذهب عقله فأتاه أخوان من إخوانه يلومونه على ما صنع بنفسه فقال:
يا صاحبيّ ألما بي بمنزلةٍ ... قد مرّ حين عليها أيما حين
في كل منزلة ديوان معرفة ... لم يبق باقية ذكر الدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني ... وكان في بدئها ما كان يكفيني
الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل.
أخبرني هاشم الخزاعي عن الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غُيبت عن ناظره فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها، وكان كلما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوماً فقال:
يا للرجال لهمّ بات يعروني ... مستطرف وقديماً كان يعنيني
على غريم مليء غير ذي عدمٍ ... يأتي فيمطلني ديني ويلويني
لا يذكر البعض من ديني فينكره ... ولا يحدثني أن سوف يقضيني
وما كشكري شكرٌ لو يوافقني ... ولا منيّ كمناه إذ يمنيني
أطعته وعصيت الناس كلهم ... في أمره ثم يأبى فهو يعصيني
خيري لمن يبتغي خيري ويأمله ... من دون شرّي وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعفٍ ... ولا أقول أخي من لا يواتيني
في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمر الشيباني: حدثني رياح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيات إلى الفتيان، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه وأعتنوا بأمره إجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلاً، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء:
فوا كبداً من حب من لا يحبني ... ومن زفرات ما لهن فناء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد ... ولم يك عندي إذ أبيت إباء
أتاركتي للموت أنت فعيتٌ ... وما للنفوس الخائفات بقاء
ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس يهين، فأقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وإبن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز بم صالح عن أبيه عن إبن وأب عن رباح بن حبيب العامري أنه سأله عن حال المجنون وليلى فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيمة بن الحريش وكانت من أجمل النساء واظرفهن وأحسنهن جسماً وعقلاً وأفضلهن أدباً واملحهن شكلاً، وكان المجنون كلفاً بمحادثة النساء صبابهن، فبلغه خبرها ونعتت له فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس افضل ثيابه ورجل جمته ومسّ طيباً كان عنده وأرتحل ناقة كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها فسلم فردت عليه السلام وأخفت المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا وكل واحد منهما مقبل على صاحبه مجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا فأنصرف إلى أهله فبات أطول ليلة شوقاً إليها حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى ثم إنصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى وأجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا ... لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري الحديث وبالمنى ... ويجمعني والهم بالليل جامع
لقد ثبتت في القلب منك محية ... كما ثبتت في الراحتين الأصابع
عروضه من الطويل والغناء لإبراهيم الموصلي رمل الوسطى عن عمرو، قال: وأدام زيارتها وترك من كان يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى إنصرف.