فالغزو للاكتساب قديم واضح الأمر. ولكن الغزو للاحتساب، هو الذي ينبعث من روح الإيمان والدين. ومن أجل ذلك لبى المعتصم الصوت الزبطري وهراق كأس الكرى، هذه التي حاولت أساطير الأخبار أن تجعلها كأس نبيذ- وترجع بروحها الإسلامي إلى روح جاهلي كروح الربيع بن زياد. والمعتصم بالله لم يكن أدبيًا ناقدًا كأبيه الرشيد ولا فلسفيًا جدليًا كأخيه المأمون، ولكنه كان جنديًا أمة تركية، أقرب إلى سذاجة صدق العقيدة مما تصوره هذه الأسطورة، والله أعلم.

لم ينفق الذهب المربي بكثرته ... على الحصى وبه فقر إلى الذهب

أي إن المعتصم ما كان ليقبل رشوة مال من توفلس الذي أراد أن يدرأ خطر الحرب بعطاء الجزية، ذلك بأن المعتصم صاحب دولة غنية، ما أنفق ما أنفق من ذهب لكي يرشى بمثله ولكن ليصول لدينه وينتقم ممن غضوا من قدره.

إن الأسود أسود الغاب همتها ... يوم الكريهة في المسلوب لا السلب

وهذا كان رأي بلال والأنصار رضي الله عنهم في أمية بن خلف.

ولى وقد ألجم الخطى منطقه ... بسكتة تحتها الأحشاء في صخب

هذا البيت غاية في جودة التعبير. وجعل الصخب في مقابلة السكتة. وأخذ المعنى فأجاد الأخذ من قول عمرو بن معد يكرب، وقد اختاره هو في حماسته،

ولو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت ولكن الرماح أجرت

فقد صخبت أحشاء عمرو ههنا بأسف شديد مع زعمه أن الخطى ألجمه لفرار قومهم وهزيمتهم. ولم يعن أبو تمام بالصخب وجيب القلب وحده كما يفهم من شرح التبريزي ولكنه عنى الخوف وهواجس الأسف والحزن. وقوله من بعد يؤيد قولنا هذا:

أحذى قرابينه صرف الردى ومضى ... يحنث أنجى مطاياه من الهرب

موكلاً بيفاع الأرض يشرفه ... من خفة الخوف لا من خفة الطرب

قال أبو الزكرياء: «المعنى أن هذا الرجل يعلو ما ارتفع من الأرض لينظر إلى الطرق هل فيها من يتبعه أ. هـ». وقوله من خفة الطرب يشير إلى نحو قول توبة:

وأشرف بالقور اليفاع لعلني ... أرى نار ليلى أو يراني بصيرها

وفيه أيضًا إشارة إلى إشراف حمار الوحش، إذ في فعله خفة طرب إذ هو مع حلائله:

يأحزة الثلبوت يربأ فوقها ... قفر المراقب خوفها آرامها

ويدلك أنه مما خلا من إشارة إلى حمار الوحش ذكره الظليم من بعد، وهذه معان يدعو بعضها بعضًا والقارئ الكريم يعلم صلة بينها:

إن يعد من حرها عدو الظليم فقد ... أوسعت جاحمها من كثرة الحطب

من حطب هذا الجاحم أعداء الله الذين انكبوا فيه. وعاد أبو تمام إلى ما بدأ به من السخرية. وقد كان سخر بالنحوم والكوكب والغربي ذي الذنب. فآن أن يسخر بالرواية وزخرفها وما قيل إنها -أي عمورية- لا تفتح قبل نضج التين والعنب. ومما ينبه إليه ها هنا أن قوله «عدو الظليم» فيه وحي رجعة إلى قوله في أول القصيدة: «زعموا الأيام مجفلة» والإجفال للنعام. وقد أجفلوا هم. فتأمل.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015