ثم تجيء الأبيات القيان وهي أجود ما في المهرجانية وأوردها صاحب الأمالي واختارها المختارون مرارًا من بعدي وعندي أن ابن الرومي قد فرغ من الصفة كلها في قوله:
وقيان كأنها أمهات ... عاطفات على بنيها حوان
صفة جيدة وصورة واضحة- وسائر ما جاء بعد افتنان من تطويل، ومذهب الزخرفة البديعية فيه لا يخفى من زعمه أنهن مطفلات من غير سابق حمل ومرضعات بلا لبان فهذا جار على مذهب اللغز ثم رجع إلى صفة الأمهات بنوع من شرح في قوله «ملقمات أطفالهن ثديا» وخرج من صفة الأمهات إلى نعت النهود وأنهن رمان كأحسن الرمان- وليس ضربة لازم في جودة غناء المغنية أن يكون نهدها غير منكسر ولا في جودة ضرب ضاربة العود- وإنما هذه انصرافة عن حاق جودة التصوير انزلق إليها ابن الرومي انزلاقًا مع الغزل. والبحتري أجود وصفًا وأدق حيث قال في السينية:
وكأن القيان وسط المقاصيـ ... ـر يرجعن بين حو ولعس
فنبه على الحسن واختلاف الألوان وأنهن في المقاصير، وأعطى صفتهن كما تبدو من بعد- ترجيع وحو ولعس وسحر أنهن مقصورات. هذا بلا ريب أجود من الإدناء الذي أدناه ابن الرومي حتى ذهل فيه عن الترجيع ونغمات العود إلى ثدي كالرمان، ثم جعلهن حافلات كضروع البقر في قوله: «مفعمات كأنها حافلات» والشاهد قوله: كأنها حافلات.
وأحسب أنه ما أوقع ابن الرومي في ذكر الدرة والحافلات إلا أنه حين حاكى البحتري في قيان سينيته قصد أن يزيد عليه بأبي تمام في صفة عوادته التي قال فيها.
ومسمعة يحار السمع فيها ... ولم تصممه لا يصمم صداها