الذي نقل فيه إلى هذه الصياغة المتهافتة- تأمل قوله (ثم ينهي طرفها عن إدامة اللحظان) - قول الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} - هذا ولم يكن أبو العلاء بالمتحامل غير المنصف، يدلك على ذلك اعتذاره عن ابن الرومي في الذي ذكروه من تطيره حيث قال في رسالة الغفران: «وكان ابن الرومي معروفًا بالتطير ومن الذي أجرى على التخير؟ وقد جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة تدل على كراهة الاسم الذي ليس بحسن مثل مرة وشهاب والحباب لأنه يتأوله في معنى الحية إلى آخر ما قال- ص 478 من رسالة الغفران» - ومن شواهد وسوسة ابن الرومي أيضًا هذا البيت الثالث، وكأنه قد وقع في وهم ابن الرومي أن معنى النهي عن إدامة اللحظان ينافي معنى المحبة لأن المحب يديم النظر، فكأنه أراد أن يحترس لهذا ويستثنى نظر الحب بزعمه أن هيبته تردع نظر كل عين ترومه بامتهان. وقد أساء ههنا من حيث أراد الإحسان، إذ زعم أن ثم اعينًا تريده عن قصد بامتهان فتحول هيبته دون مرادها. ولو قد فطن حقًّا لعلم أن الهيبة في ذات نفسها حجاب عام لا بد معه من علامة إذن كالابتسام مثلًا، كما قال الشاعر:
يغضى حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
فالمغضون هنا ما أغضوا لأنهم هموا بامتهان ولمن منهم من عسى أن يكون شديد الحب لمن أغضى عنه شديد الرغبة أن يديم إليه النظر وقول البحتري:
فسلمت واعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إلي ببشر آنستني مخايله
جار على هذا المذهب مع التفصيل والتصوير النفسي الدقيق، وقد كان البحتري بلا ريب عالمًا بأمر لقاء أولى المهابة ممارسًا له.