بديباجة لا يدانيه فيها من المحدثين شاعر. وسر جودة ديباجته أنه كان يغني من أعماق قلبه. وقد عرف القدماء هذا من أمره والخصه ابن الأثير في قوله: «وأراد أن يشعر فغنى» وقبله «وأما البحتري فقد أجاد سبك اللفظ على المعنى». ونحن فصلنا بين جزئي السجع، لننبه على أن أمر البحتري متجاوز لمجرد سبك اللفظ على المعنى إلى درجة هي أسمى من ذلك. وعلى أن ابن الأثير كأنه قد أضرب بقوله: وأراد أن يشعر فغني عن قوله الأول. وقد وفق في هذه العبارة أيما توفيق. ذلك بأن الشعر إنما وضع للغناء والترنم. فقد تجاوز البحتري مرتبة الشعر الأولى إلى الثانية. ذلك بأن الشعر معان وألفاظ يلبسها التعبير بالإيقاع. ثم يجيء الغناء فيجعل جميع هذا يلبس ألوانًا من الإيقاع بعد ذلك فتغلب روحانية الإيقاع على كل مادة من الأجناس الأخرى المؤتلفة والمؤلف منها الشعر. ولقد كنت في الدهر الأول أتأمل كلمات لمصطفى لطفي المنفلوطي رحمه الله في النظرات يذكر فيها الشعر، ثم يقول بعد ذلك أن هذا الشعر إذا صير به إلى الغناء ملك على الفؤاد نواحيه، أو شيئًا هذا معناه، واستشهد على الغناء بقول الآخر:
يا لهفتا للغريب في البلد ... النازح ماذا بنفسه صنعا
فارق أحبابه فما انتفعوا ... بالعيش من بعده ولا انتفعا
فكنت أقول هذا أيضًا شعر فكيف فرق المنفلوطي بينه وبين الآخر فجعله غناء. ومراد المنفلوطي أحسبه الآن قد وضح لي. وهو نحو ما عناه ابن الأثير حيث قال ما قاله عن البحتري.
كان أبو تمام يتغنى ويحسن رنة الترنم بلا ريب. من شواهد ذلك قوله:
أبقى أبوك ومزيد وأبوهما ... وأبوه ركنك في الفخار شديدا