وهذا صداه قوله: «ألا رب خصم فيك ألوى رددته» الخصم يعذله على الضلال في الحب، وهؤلاء يعذلونه على إهلاك نفسه بالأسى من أجل الذكرى والحبيب والمنزل الذي درس ولا غناء عنده.
رابعًا: شفاء الدمع له بانكشاف صور الذكرى أمامه. وقال ذو الرمة وإلى امرئ القيس نظر ومنه أخذ:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انهمال الدمع يعقب راحةً ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
شفاء الدمع في استعادة الذكرى وحياتها بالخيال حياةً أرفع في ذروة الفن، حياةً هي خلقٌ فنيٌّ جديد. عند كلردج أن الخيال الأول هو معدن الخلق والإبداع فإن لا يكن في قوله غموض أو غلو فعسى أن يكون مراده، وسنعرض هذا إن شاء الله لمقالته في موضع يلي. ومما يحسن ذكره ههنا على سبيل الاستطراد قول أبي الطيب:
فإن يكن المهدي من بان هديه ... فهذا وإلا فالهدى ذا فما المهدي
وإلا فالخيال والإبداع ذا، فما الخيال؟
خامسًا: أفضت بالشاعر راحة الدمع والبكاء إلى التلذذ بذكرى الحبائب، وخاصة يوم دارة جلجل، وحدث به الأصمعي عمن لم يسمه من رواية الفرزدق، وفيه ما يدل على أن عنيزة كانت من العذارى وأن قوله: «فمثلك حبلى إلخ» فخر منه وتبجح وجدل غضبةٍ من عاشق. (راجع شرح السبع ص 14) ولا يخلو سياق الخبر من خيال الأساطير، وقصة الحسن البصري وثياب الريش في ألف ليلة وليلة تنظر إلى خبر يوم دارة جلجل، ولا يخفى أن الفرزدق ورواته كانوا يترددون على مربد البصرة- قصة ملابس الريش في حكاية الحسن البصري والحسناء بدور بنت الملك الغيور ...