أولًا: التمييز بين "الرومانتيكية" الإبداعية وبين التحرر في التجديد
ينبغي أن نميّز بين ما شاع في العالم العربي من مذاهب أدبية حديثة وافدة من الغرب، وخاضعة لظروف الحياة في أوروبا، وبين مذاهبنا الأدبية العربية الأصيلة، والخاضعة لقيمنا العربية الإسلامية العريقة.
وبناء على هذا التمييز فإنني أجد مبالغة وغلوًّا وإسرافًا في تطبيق "الرومانتيكية" الغربية الأوروبية على شعرنا العربي، من بعض نقادنا العرب المعاصرين، وهم متجاوزون في ذلك كل التجاوز، ولن أقول: "إنهم مخطئون، ولكنهم مبالغون متجوزون إلى حد بعيد.. ولا أدل على ذلك من أن بعض الشعراء العرب أعتقد أنهم لم يقرأوا شيئًا عن المذهب "الفلسفي الرومانتيكي"، مثل شعراء هذه المدرسة التي نحن بصدد الحديث عنها، فلا يمكن أن تعد شعرهم شعرًا تقليديًّا، ولا محافظًا، بل متحررًا في تجديده، ومن العبث أن نطلق عليهم شعراء "رومانتيكيين" ابتداعيين، وإنما يجب أن يكون الشعار الذي يرفرف على مدرستهم من الواقع الإسلامي العربي، الذي يعيشه الإنسان الشاعر العربي المسلم.
ولهذه الأسباب أطلقت على مدرستهم الفنية، ومذهبهم الأدبي اسم "مدرسة التحرر في التجديد"؛ لأن مثل هؤلاء الشعراء في أي موطن عربي وإقليم إسلامي ليسوا مقلدين، ولا محافظين، بل تحرروا في الأغراض، وفي المعاني، وفي الأسلوب، وفي الخيال، وفي الصور، وفي القالب الموسيقي، وفي القافية، وفي منهج القصيدة، وفي النزوع إلى الذاتية، وفي التغني بالوجدان والمشاعر، وفي التغني بالأحاسيس والعاطفة الشخصية، وغيرها مما سنراه في خصائص مدرستهم بعد قليل.
ولتحديد التمييز بين "الرومانتيكية"، وبين مدرسة التحرر في التجديد، ينبغي أن أعرض في إيجاز طبيعة "الرومانتيكية"، حتى تتميز مدرسة التحرر في التجديد كما ذكرنا سلفًا.
وطبيعة "الرومانتيكية" في أوروبا قد ألحت على وجودها ظروف دافعة نابعة من واقع الحياة المرة التي كان يعيشها الإنسان الأوروبي في ظلال التَّزمُّت الكنسي، والتعصب الروحي، فقد انطوت تحت بلاط الكنيسة شتى النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والعلمية، مما أدى إلى التحجُّر والجمود، وكلاهما كانا منطلقًا للثورة على الكنيسة، وللتحرر من عبوديتها، وفي ظلال ذلك نشأت "الرومانتيكية" الثائرة على الروتين الكنسي الديني، وعلى العقل الجامد المتزمّت الخاضع لبلاط الكنيسة.