البديع لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) نفى أن تقع منه عبادة لآلهتهم في الحال، ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) فأتى بالجملة الاسمية لإفادة أن عدم عبادته لآلهتهم فيما يستقبل ثابت مستمر ففيه قطع لأطماعهم على أبلغ وجه وآكده، ومثل هذه السورة سورة الإخلاص، فقد أجمل الله فيها العقيدة الخالصة من غير استدلال، لأنها نزلت جوابا للمشركين، أو اليهود؛ لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أنسب لنا ربّك؛ أي بيّن لنا ذاته وصفته، فأنزل الله السورة، ولا يعزب عن أذهاننا أن السورتين بمنزلة النتيجة لمئات الأدلة والبراهين التي أقامها الله على إثبات الصانع جل وعلا ووحدانيته وصفاته واستحقاقه التفرّد بالعبادة، ولعلّ من اللطائف وقوعها في الترتيب الكتابي في آخر القرآن كما تقع النتيجة من مقدماتها فلا عجب أن جاءتا على هذا الوضع.
قال: إن القسم المكي خال من التشريعات التفصيلية والقوانين، أما القسم المدني فينفرد بالتشريعات الإسلامية؛ كالمواريث والوصايا، والزواج، والطلاق، والبيوع، وسائر المعاملات، ولا شكّ أن هذا أثر من آثار التوراة والبيئة اليهودية التي ثقفت المهاجرين إلى يثرب ثقافة واضحة يشهد بها هذا التغيير الفجائي الذي ظهر على أسلوب القرآن، وغرضه بهذا التشكيك في أن القرآن من عند الله.
وللرد على هذا نقول:
1 - إن هذا الفرق بين المكي والمدني قد عرضنا له لما تحدثنا عن خصائص المكي والمدني وقد تنبه العلماء إلى هذه الظاهرة منذ مئات السنين، ولكن ليس السبب ما ذكره من تأثر القرآن بالبيئة؛ وإنما السبب في هذا أن أهل مكة كانوا ينكرون أصول الإيمان والشرائع، فكان الملائم لهم دعوتهم إلى هذه الأصول، حتى إذا ما استضاءت قلوبهم بالإيمان وأشربوا حبه كلفوا بالتشريعات التفصيلية، وهذا ما كان.
وأن من خطل الرأي أن نأتي لهم بالفروع والأحكام العملية قبل أن يؤمنوا