المدرسة البصرية النابهين، وكان يكثر من التعليلات والأقيسة ونثر الآراء، كما كان ينكر بعض القراءات الشاذة مثل أستاذه المازني والفراء الكوفي من قبله. وربما كان أهم تلاميذه الزجاج وابن السراج، ولهما في المسائل النحوية خواطر ومقترحات كثيرة، وتلاهما السيرافي شارح كتاب سيبويه، وهو فيه يتسع في التعليلات والتأويلات والتخريجات، ويعد خاتمة نحاة البصرة المهمين.
والقسم الثاني من الكتاب خاص بمدرسة الكوفة، وقد بدأت البحث فيها بالحديث عن نشأة النحو الكوفي وطوابعه، ونقضتُ ما يقال من أن نشاط الدراسات النحوية في الكوفة بدأ مبكرا عند الرواسي, وأن معاذا الهراء الكوفي معاصره وضع علم الصرف، إذ لا شك في أن القول بذلك إنما هو ضرب من الوهم والبعد في الخيال، والصحيح أن هذا النشاط إنما بدأ بدءا حقيقيا مع الكسائي وتلميذه الفراء. فهما اللذان رسما حدود النحو الكوفي وفصوله ووضعا أسسه وأصوله، بحيث أصبح للكوفة مدرسة نحوية تستقل بطوابع خاصة من حيث الاتساع في الرواية والقياس, ومن حيث وضع مصطلحات جديدة وما يجري معها من عوامل ومعمولات. وبتوضيح هذه الطوابع المستقلة نقضت ما زعمه فايل من أنه لم تكن للكوفة مدرسة نحوية خاصة، كما نقضت ما توهمه بعض المعاصرين من بغدادية الفراء لما في ذلك من مخالفة لطبائع الأشياء، إذ لم تكن المدرسة البغدادية قد نشأت حتى عصره، وأيضا فإنه هو الذي أعطى النحو الكوفي صيغته النهائية، ولولاه ما استقام هذا النحو ولا وضع منهاجه ولا صححت حدوده ولا فصلت مصطلحاته. وقد ثبَّت الكسائي أستاذه الأسس الأولى للمدرسة، وكان يكثر من الخلاف على سيبويه والخليل فاسحا في قواعده للغات الشاذة ولغات البدو من أهل الحاضرة كما فسح لبعض القراءات الشاذة، وكان أحيانا يتجاوز السماع محتكما إلى حسه اللغوي. ودائما نجده يلتمس مخالفة المدرسة البصرية في التوجيهات الإعرابية. وكان ينهج نهجه تلاميذه وخاصة هشاما الضرير، وألمعيّهم الفراء، وهو -كما أسلفنا آنفا- الذي رسخ أصول النحو الكوفي وفروعه, وصاغ مصطلحاته ورفعها علما منصوبا، مع ما نثره من الخواطر التي لا تكاد تحصى في تفسير بعض الأدوات وفي العوامل والمعمولات، وهو لا يبارَى في تحليله لآي الذكر الحكيم وتوجيهاته لما يجري فيها