بقصد تمرين الناشئة. ويخلفه على هذه المادة النحوية العلمية الخصبة تلميذه سيبويه، ويعكف عليها محللا مستنبطا، وما يلبث أن يؤلف فيها "الكتاب" الذي أحاط فيه بأصول النحو وقواعده ودقائقه والذي لم يترك فيه ظاهرة من ظواهره إلا أتقنها علما وفقها وتحليلا، ولم يعن فيه عناية واسعة بالحدود والتعريفات، إنما عني بالتقسيمات والتفريعات، وكأنما كان يعنيه المنطق العملي بأكثر مما كان يعنيه المنطق النظري التجريدي. ولا نبالغ إذا قلنا: إنه هو الذي أعطى نظرية العوامل والمعمولات كل ما اتصفت به من حدة ومناهج صارمة في الحذف والتقدير. وكان لا يبارى في تحليل العبارات وبيان ما يداخلها من وفرة الاحتمالات الإعرابية. ووضع نصب عينيه استقراء كلام العرب الفصحاء والنقل عن القراء، بحيث لا يسجل شارة نحوية دون شاهد أو مثال، مع الإكثار من التعليلات لا للقواعد المطردة فحسب، بل أيضا للأمثلة الشاذة، ومع وصل ذلك كله دائما بالأقيسة المنطقية السديدة. وحمل الأخفش الأوسط تلميذه الكتاب عنه، وأخذ يقرئه تلاميذه من البصريين كما أقرأه الكسائي، وهو في تضاعيف ذلك يضيف مادة غزيرة من التعليلات، مع فتحه الأبواب للإدلاء بآراء نحوية جديدة. وبذلك أعد النحاة من بعده كي تكثر اجتهاداتهم، ولا شك في أنه هو الذي ألهم الكسائي إمام الكوفة أن ينفذ إلى مذهب نحوي مستقل يقابل مذهب المدرسة البصرية، يدل على ذلك أكبر الدلالة التقاؤه معه في كثير من الآراء النحوية، بل أيضا التقاؤه بعامة مع أئمة المدرسة الكوفية. وقد مضوا يتابعونه -باستثناء الفراء- في الاحتجاج للقراءات الشاذة بأقوال العرب, وما كانوا ينشدونه من أشعار. وفسح أيضا للأشعار النادرة الخارجة على مقاييس مدرسته، وخالف سيبويه والخليل في كثير من المسائل النحوية والصرفية، مع نثره لكثير من الآراء والمقترحات، مما يدل دلالة واضحة على خصب ملكاته. وأخذ عنه الكتاب قطرب والجرمي، ولهما في النحو آراء كثيرة تدل على بعد غورهما ودقتهما في التفكير والاستنباط. وأنبه منهما وأشهر المازني رفيق الجرمي ووارث حلقته، وله في النحو آراء طريفة، وهو الذي فصل التصريف عنه وصنف فيه مصنفات قيمة نظم فيها قواعده ومسائله، وجعله علما مستقلا بأبنيته وأقيسته وتمارينه. وخلفه تلميذه المبرد وهو آخر أئمة