إمام الكوفة الأول كتاب سيبويه، فهو الذي فتح له وللفراء أبواب الخلاف مع سيبويه والخليل على مصاريعها، وبذلك أعدهما للخلاف عليهما وتنمية هذا الخلاف بحيث نفذا إلى مذهبهما النحوي الجديد. وإذا كان فايل لاحظ أن بعض الكتب النحوية ذكرت اتفاق يونس والكوفيين في مسائل لا تعدو أصابع اليد الواحدة, فقد مر بنا في ترجمة الأخفش اتفاق الكسائي والفراء والكوفيين معه في نحو ثلاثين مسألة. وليس ذلك فحسب، فإنه هو أيضا الذي ألهم -كما مر بنا- الكوفيين المتأخرين الاعتداد بالقراءات الشاذة للذكر الحكيم، مما يجعله بحق الموجه الحقيقي للكوفيين في إحداث مدرستهم سواء من حيث أخذها بالقراءات الشاذة, أو من حيث التوسع في الرواية والاعتماد على الشواذ في مخالفة سيبويه وأستاذه الخليل.

أما ما زعمه فايل من أن الكوفة لم تكن لها مدرسة نحوية خاصة, فقد بنى زعمه فيه على كثرة الخلافات بين أئمتها على نحو ما سيلقانا بين الكسائي وتلميذه الفراء، وكأنها لا تؤلف جبهة علمية موحدة، إنما كل ما هناك اتجاه للخلاف على البصرة تمادوا فيه. وهو دليل منقوض، فقد كان نحاة الكوفة يكونون جبهة طالما تناظر أفرادها مع أفراد جبهة البصرة، وأكثر ابن جني وغيره من ذكر آرائها، بل لقد أفرد لها العلماء المصنفات على نحو ما مر بنا آنفا عند أبي البركات بن الأنباري في كتابه الإنصاف. على أن فايل نفسه يعود فيثبت للفراء مذهبا في النحو خالف به الكسائي ومعاصريه، وليس هذا المذهب إلا مذهب المدرسة الكوفية التي أنكرها، تكامل تشكله عنده. أما أنه خالف أستاذه الكسائي في بعض المسائل فهذا من حقه، على نحو ما خالف سيبويه أستاذه الخليل، وعلى نحو ما خالفهما معا تلميذهما الأخفش في كثير من المسائل، وهم جميعا أئمة المدرسة البصرية. وسنرى في غير هذا الموضع أن الفراء يقوم في الكوفة مقام سيبويه في البصرة، فهو الذي أعطى المدرسة الكوفية تشكلها النهائي إلا بعض إضافات زادها الكوفيون بعده وفي مقدمتهم ثعلب.

وغلا بعض المعاصرين في كتاب له عن الفراء فأخرجه من المدرسة الكوفية, وجعله إمام المدرسة البغدادية التي تكونت بعده بنحو مائة عام, والتي أقامت

طور بواسطة نورين ميديا © 2015