هذه الدار ميراثاً له ولأخيه فلان، لا وارث له غيرهما وأخوه غائب، فإن القاضي يقضي بحصة الحاضر وينزع نصيبه من يده ويسلمه إليه، وأما نصيب الغائب، فيترك في يد ذي اليد حتى يحضر الغائب في قول أبي حنيفة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: إن كان صاحب اليد منكراً كما هو موضوع المسألة حتى احتيج إلى إقامة البينة يخرج نصيب الغائب من يده، ويضعه على يدي عدل. وإن كان مقراً يترك نصيب الغائب في يده، قالا: وهذا استحسان.
فإن ترك نصيب الغائب في يد ذي اليد ثم حضر الغائب، هل يكلف إعادة البينة؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في كتاب الدعوى، واختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، منهم من قال: يكلفه إعادة البينة كما في مسألة القصاص، ومنهم من قال: لا يكلفه إعادة البينة، وجعل هذه المسألة على الوفاق، وهو الصحيح. وقيل مسألة دعوى الدين بالإرث يحتمل أن تكون على الاختلاف أيضاً كمسألة القصاص، وصاحب «الأقضية» ذكرها مطلقة من غير ذكر خلاف، ولكن هذا ليس بصحيح، فقد حكينا آنفا عن «المنتقى» أنها على الوفاق، فيحتاج أبو حنيفة رحمه الله إلى الفرق (بين مسألة القصاص و) بين الدين الموروث، ويحتاج أيضاً إلى الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث.
أما الفرق بين الدين الموروث وبين القصاص أن في فصل الدين الوارث يثبت الدين لمورثه؛ لأن التركة قبل القسمة مبقاة على حكم ملك الميت على ما عرف في موضعه، فالدعوى تقع للمورث، وأحد الورثة ينتصب خصماً عن الميت في جميع ما يدعي للميت أو يدعى عليه، فيثبت بدعواه وبينته جميع الدين للورثة، فلا يحتاج الغائب إلى إعادة البينة، ولأجل هذا المعنى قلنا: إن الصحيح في مسألة الدار أن الغائب لا يكلف إعادة البينة على قول أبي حنيفة.
فأما في فصل القصاص، فالوارث لا يثبت القصاص للمورث؛ لأن ملك القصاص ملك استيفاء، فيستحيل ثبوته لمن لا يقدر على الاستيفاء، وإنما يثبت القصاص للورثة ابتداء، وأحد الورثة لا ينتصب خصماً عن باقي الورثة فيما يثبت لهم ابتداء.
وأما الفرق بين الدين المشترك بجهة الإرث وبين الدين المشترك لا بجهة الإرث أن في الدين المشترك بجهة الإرث الوارث يثبت الدين للمورث، وهو خصم عن المورث في جميع ما يثبته له، فأما في الدين المشترك لا بجهة الإرث يثبت الملك لهما ابتداء، وأحد الشريكين ليس بخصم عن الآخر في إثبات ذلك له.
ومن جنس هذه المسائل مسألة الهبة، وصورتها: رجل ادعى على رجل أنه وهب له ولفلان هذا وسلمه إليهما، فإن كان الموهوب شيئاً لا يحتمل القسمة صحت هذه الدعوى وقبلت بينته في حق الحاضر دون الغائب عند أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله تقبل بينته في حق الحاضر دون الغائب أيضاً، كما في الشراء، وإن كان الموهوب شيئاً يحتمل القسمة بأن كانت داراً لم تصح هذه الدعوى عند أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن عنده هبة الدار من رجلين فاسدة، وعندها هبة الدار من رجلين صحيحة، فتصح هذه الدعوى.