فَإِنْ ذَكَرُوا قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ؟ قُلْنَا: هَذَا مَرْدُودٌ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ الرَّهْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى إسْقَاطِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِالْإِشْهَادِ، وَالْكِتَابِ، بِالدَّعْوَى بِلَا بُرْهَانٍ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ دَعْوَى عَارِيَّةٌ مِنْ الْبُرْهَانِ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ مُطْرَحٌ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] .
وَمِنْ أَطْرِفْ شَيْءٍ مُبَادَرَتُهُمْ إذَا ادَّعَوْا فِي شَيْءٍ مِنْ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ أَنَّهُ نَدْبٌ؟ فَقُلْنَا لَهُمْ: مَا بُرْهَانُكُمْ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى؟ قَالُوا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة: 10] .
فَقُلْنَا لَهُمْ: إنَّ هَذَا لَعَجَبٌ لَيْتَ شِعْرِي فِي أَيِّ دِينٍ وَجَدْتُمْ أَمْ فِي أَيِّ عَقْلٍ: أَنَّهُ إذَا صَحَّ فِي أَمْرٍ مِنْ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ أَنَّهُ نَدْبٌ وَجَبَ أَنْ تُحْمَلَ سَائِرُ أَوَامِرِهِ تَعَالَى عَلَى أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ، وَعَلَى أَنَّهَا نَدْبٌ؟ فَمَا سُمِعَ بِأَعْجَبَ مِنْ هَذَا الِاحْتِجَاجِ الْفَاسِدِ إذْ قَصَدُوا بِهِ هَدْمَ الْقُرْآنِ بِلَا بُرْهَانٍ.
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ فِعْلِهِمْ هَذَا هَهُنَا وَبَيْنَ مَنْ قَصْد إلَى أَيِّ آيَةٍ شَاءَ مِنْ الْقُرْآنِ فَقَالَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ؟ فَإِذَا قِيلَ لَهُ: مَا بُرْهَانُك عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ: نَسْخُ اللَّهِ تَعَالَى الِاسْتِقْبَالَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَنَسْخُهُ لِإِعْدَادِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا سَنَةً.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ وُجُودَ النَّسْخِ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ، أَوْ كَوْنَهُ عَلَى النَّدْبِ، أَوْ عَلَى الْخُصُوصِ: إذَا جَاءَ نَصٌّ آخَرُ بِبَيَانِ ذَلِكَ وَأَمَّا بِالدَّعْوَى فَلَا.
فَإِذَا صَحَّ فِي أَمْرٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ، أَوْ مَنْدُوبٌ، أَوْ مَخْصُوصٌ، بِنَصٍّ آخَرَ؟ قُلْنَا بِذَلِكَ وَلَمْ نَتَعَدَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ إلَى مَا لَمْ يَأْتِ فِيهِ دَلِيلٌ يَصْرِفُهُ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَمُقْتَضَاهُ؟ قَالَ عَلِيٌّ: وَاحْتَجُّوا بِالْخَبَرِ الْمَأْثُورِ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ عَمَّهُ أَخْبَرَهُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيُعْطِيَهُ