قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهَا نَسَخَتْ، الْأَمْرَ بِالرَّهْنِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبْلَهَا مُتَّصِلًا بِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّهَا نَسَخَتْ كُلَّ مَا كُتِبَ قَبْلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَا كُلَّ مَا نَزَلَ قَبْلَهَا مِنْ الْقُرْآنِ، فَإِذْ لَا شَكَّ مِنْ هَذَا: فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي قَوْلِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهَا نَسَخَتْ الْأَمْرَ بِالْإِشْهَادِ وَالْكِتَابِ بِالدَّعْوَى الْبَعِيدَةِ الْفَاسِدَةِ بِلَا بُرْهَانٍ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ الْحَسَنِ، وَالْحَكَمِ.
وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْأَمْرَ بِكُلِّ ذَلِكَ: نَدْبٌ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي قِلَابَةَ، وَصَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، وَابْنِ سِيرِينَ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: دَعْوَى النَّسْخِ جُمْلَةً لَا يَجُوزُ إلَّا بِبُرْهَانٍ مُتَيَقَّنٍ، لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى إنَّمَا وَرَدَ لِيُؤْتَمَرَ لَهُ وَيُطَاعَ بِالْعَمَلِ بِهِ، لَا لِتَرْكِهِ، وَالنَّسْخُ يُوجِبُ التَّرْكَ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي شَيْءٍ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ: هَذَا لَا تَلْزَمُنِي طَاعَتُهُ إلَّا بِنَصٍّ آخَرَ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَوْ عَنْ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنَّهُ قَدْ نُسِخَ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ.
وَكَذَلِكَ دَعْوَى النَّدْبِ بَاطِلٌ أَيْضًا إلَّا بِبُرْهَانٍ آخَرَ مِنْ النَّصِّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّدْبِ إنْ شِئْت فَافْعَلْ وَإِنْ شِئْت فَلَا تَفْعَلْ، وَلَا يُفْهَمُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فِي لَفْظَةِ افْعَلْ لَا تَفْعَلْ إنْ شِئْت إلَّا بِبُرْهَانٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، فَبَطَلَتْ الدَّعْوَتَانِ مَعًا بِيَقِينٍ لَا إشْكَالَ فِيهِ.
وَلَيْتَ شِعْرِي مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة: 282] وَقَدْ قَالَ الْمَالِكِيُّونَ فِي ذَلِكَ: هُوَ فَرْضٌ، وَقَالُوا هَهُنَا: هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلَا بُرْهَانٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33] وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّونَ: إنَّهُ فَرْضٌ، وَقَالُوا هَهُنَا: هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلَا دَلِيلٍ.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] فَقَالَ الْحَنَفِيُّونَ: هَذَا فَرْضٌ وَلَا يُقَامُ بِمَكَّةَ حَدٌّ، وَقَالُوا هَهُنَا: هُوَ نَدْبٌ تَحَكُّمًا بِلَا حُجَّةٍ.
وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ أَمْرِهِ تَعَالَى بِالْإِشْهَادِ، وَالْكِتَابِ، وَبَيْنَ أَمْرِهِ تَعَالَى بِمَا أَمَرَ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ، وَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَحُكْمِ الْإِيلَاءِ، وَحُكْمِ اللِّعَانِ، وَسَائِرِ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ؟ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَنْ نَجْعَلَ {الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الحجر: 91] فَنُوجِبُ بَعْضًا وَنُلْغِي بَعْضًا.