وَأَمَّا نَهْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ فَحَقٌّ وَهُوَ قَوْلُنَا، وَإِضَاعَتُهُ هُوَ صَبُّهُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ إنْفَاقُهُ فِي مُحَرَّمٍ كَمَا قُلْنَا فِي التَّبْذِيرِ، وَالْإِسْرَافِ، وَبَسْطِ الْيَدِ.
بُرْهَانُ ذَلِكَ -: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي " الْمُزَارَعَةِ «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» فَلَمْ يَجْعَلْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَرْكَ الْأَرْضِ لَا تَعْمُرُ إضَاعَةً لِلْمَالِ إذَا لَمْ يَحْتَجْ صَاحِبُهَا إلَى ذَلِكَ.
وَمَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ تَرْكَ التَّزَيُّدِ مِنْ كَسْبِ الْمَالِ لِمَنْ مَعَهُ الْكَفَافُ لَهُ وَلِعِيَالِهِ مُبَاحٌ، وَأَنَّ إقْبَالَهُ حِينَئِذٍ عَلَى الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ أَفْضَلُ مِنْ إكْبَابِهِ عَلَى طَلَبِ التَّزَيُّدِ مِنْ الْمَالِ - فَظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
وَأَعْجَبُ شَيْءٍ قَوْلُهُمْ: إنَّ مَنْ لَمْ يُثَمِّرْ مَالَهُ فَهُوَ سَفِيهٌ، ثُمَّ أَبَاحُوا لِمَنْ تَعَدَّى فَأَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ ظُلْمًا أَوْ غَصْبًا، وَبِالْبَيْعِ، وَبِأَيِّ وَجْهٍ أَمْكَنَهُ، فَلَمَّا طَلَبَ بِالْحُقُوقِ، وَأَخَذَ مَا وُجِدَ لَهُ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ أَنْ يَقْعُدَ مَكَانَهُ فَلَا يَتَكَسَّبُ شَيْئًا يُنْصِفُ مِنْهُ أَهْلَ الْحُقُوقِ قَبْلَهُ - وَهَذِهِ ضِدُّ الْحَقَائِقِ، مَرَّةً يَمْنَعُونَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، وَالْعِتْقِ، وَالْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحْسِنُ تَثْمِيرَ مَالِهِ، وَمَرَّةً يُطْلِقُونَ لَهُ أَنْ لَا يُثَمِّرَ مَالَهُ وَإِنْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْحُقُوقِ قِبَلَهُ، فَوَاخِلَافَاهُ.
رُوِّينَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى نا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ الطَّنَافِسِيُّ نا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ نا ابْنُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سُئِلَ أَبِي عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ؟ فَقَالَ: أَنْ يَرْزُقَك اللَّهُ تَعَالَى مَالًا فَتُنْفِقَهُ فِيمَا حُرِّمَ عَلَيْك.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: أَوْلَادُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ هُمْ ثَلَاثَةٌ، عَبْدُ اللَّهِ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ، وَإِسْحَاقُ: كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مَشَاهِيرُ، فَأَيُّهُمْ كَانَ فَهُوَ ثِقَةٌ -.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ الْإِسْرَافَ هُوَ النَّفَقَةُ فِي الْمَعَاصِي - فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ هُوَ قَوْلُنَا، وَأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِمْ.
وَأَمَّا الْخَبَرُ الْآخَرُ «أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ فَحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَزَوَّجَ فَزَنَى فَالْإِثْمُ بَيْنَهُمَا» .
فَلَوْ صَحَّ لَكَانَ أَعْظَمَ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَأَشَدَّ خِلَافًا لِقَوْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا نَهْيُ الْوَلِيِّ عَنْ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ الْيَتِيمِ وَبَيْنَ التَّزْوِيجِ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ، وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ