خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ فَلَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنُّوهُ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَتْ مِصْرُ، وَالْكُوفَةُ، وِرَاؤُنَا: خَيْرًا مِنْ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ.
وَرُوِّينَا عَنْ مُسْلِمٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ نُمَيْرٍ نَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ نَا عُبَيْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ عُمَرَ - عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «سَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ» وَهَذَا مَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ: أَنَّ هَذِهِ الْبِلَادَ مِنْ أَجْلِ مَا فِيهَا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنْ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: وَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ لَيْسَ عَلَى مَا يَظُنُّهُ أَهْلُ الْجَهْلِ مِنْ أَنَّ تِلْكَ الرَّوْضَةَ قِطْعَةٌ مُنْقَطِعَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْأَنْهَارَ مُهْبَطَةٌ مِنْ الْجَنَّةِ، هَذَا بَاطِلٌ وَكَذِبٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يَقُولُ فِي الْجَنَّةِ {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى - وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} [طه: 118 - 119] فَهَذِهِ صِفَةُ الْجَنَّةِ بِلَا شَكٍّ وَلَيْسَتْ هَذِهِ صِفَةَ الْأَنْهَارِ الْمَذْكُورَةِ وَلَا تِلْكَ الرَّوْضَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَا يَقُولُ إلَّا الْحَقَّ.
فَصَحَّ أَنَّ كَوْنَ تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ الْجَنَّةِ إنَّمَا هُوَ لَفْظُهَا، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِيهَا تُؤَدِّي إلَى الْجَنَّةِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْأَنْهَارَ لِبَرَكَتِهَا أُضِيفَتْ إلَى الْجَنَّةِ، كَمَا تَقُولُ فِي الْيَوْمِ الطَّيِّبِ: هَذَا مِنْ أَيَّامِ الْجَنَّةِ؛ وَكَمَا قِيلَ فِي الضَّأْنِ: إنَّهَا مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ، وَكَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ» فَهَذَا فِي أَرْضِ الْكُفْرِ بِلَا شَكٍّ وَلَيْسَ فِي هَذَا فَضْلٌ لَهَا عَلَى مَكَّةَ، ثُمَّ لَوْ صَحَّ مَا ادَّعُوهُ وَظَنُّوهُ لَمَا كَانَ الْفَضْلُ إلَّا لِتِلْكَ الرَّوْضَةِ خَاصَّةً لَا لِسَائِرِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِهِمْ.
فَإِنْ قَالُوا: مَا قَرُبَ مِنْهَا أَفْضَلُ مِمَّا بَعُدَ. قُلْنَا: يَلْزَمُكُمْ عَلَى هَذَا أَنَّ الْجُحْفَةَ، وَخَيْبَرَ، وَوَادِيَ الْقُرَى أَفْضَلُ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهَا أَقْرَبُ إلَى تِلْكَ الرَّوْضَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَهَذَا لَا يَقُولُونَهُ، وَلَا يَقُولُهُ ذُو عَقْلٍ، فَبَطَلَ تَظَنُّنُهُمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ يَتَأَوَّلُونَ الْأَخْبَارَ الصِّحَاحَ بِلَا بُرْهَانٍ مِثْلُ «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ حَتَّى يَتَفَرَّقَا» وَمِثْلُ «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا يُقِيمُ صُلْبَهُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ» وَغَيْرُ