وَيعلم الْعذرَة، نبه بالبرهان من نشوة سناته، حَتَّى تستقيم قهرا كعوب قناته، فَإِنِّي كَمَا قَالَ زِيَاد الْأَعْجَم:
وكنتُ إِذا غَمَزْتُ قَناةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعوبَها أَو تَستْقيِما
وَلَا أنكر فِي كل ذَلِك أَن تختل قَضِيَّة بَين خَمْسَة آلَاف، أَو حرف بَين حُرُوف عديدة أَضْعَاف، لِأَنِّي أَنا الْجواد الخوار الْعَنَان، المخترق للميدان، فِي غير فن من الْفُنُون، وَالْيَقِين قَاتل لخوالج الظُّنون، وَذَلِكَ أَنِّي أجد علم اللُّغَة اقل بضائعي، وأيسر صنائعي، إِذا أضفته إِلَى مَا أَنا بِهِ من علم حقيق النَّحْو، وحوشي لعروض، وخفي القافية، وتصوير الأشكال المنطقية، وَالنَّظَر فِي سَائِر الْعُلُوم الجدلية، الَّتِي يَمْنعنِي من الْأَخْبَار بهَا نبو طباع أهل الْوَقْت، وَمَا هم عَلَيْهِ من رداءة الأوضاع والمقت؛ وَإِذا كَانَ المنفردون لكتاب اللُّغَة وتكميشها، واحتطابها وتقميشها، كَأبي عُبَيْدَة والأصمعي، قد غلطوا فِي بعض مَا دوَّنوا، فَأَنا أَحْرَى بذلك، لِأَن هَؤُلَاءِ جاوروا أهل الْبَادِيَة، وأطالوا احتلاب الْإِبِل النادية، مَعَ مَا كَانُوا يتحفون بِهِ فصحاء الأعاريب. من ضروب الْأَعَاجِيب، ويستعملونه مَعَهم من الخداع، جَريا إِلَى اسْتِدَامَة الإمتاع، فَكيف بِي وَلم آلف إِلَّا شطوط الْأَنْهَار، وَلَا أصخت إِلَّا إِلَى نَاحيَة التيار، بَين أنَاس لَوْلَا الشكل لم تقض لَهُم بالإنسانية، وَلَوْلَا الْحس مَا حكمت عَلَيْهِم بالحيوانية.
ثمَّ إِن الْأَيَّام عاضتني من الرمضاء بالنَّار، وبدلتني من الصدى شدَّة الأوار، فأزعجتني عَن ذَلِك الوطن الْخَبيث، والسكن الغثّ الرَّثيث، إِلَى سباخٍ ذفرة، وشطآن بحار دفرة، أوحش بِلَاد الله غربَة، وأخبثها عنصرين: هَوَاء وتربة، ضد مَا وَصفه ذُو الرمة بقوله:
بأرضٍ هِجانِ اللَّوْنِ وَسْمِيَّة الثَّرَى ... عَذاةٍ نَأَتْ عَنْهَا المُئُوجَةُ والبَحْرُ
أرْض خَلَعْتُ اللَّهْوَ خَلْعِىَ خاَتمِي ... فِيهَا، وطَلَّقتُ السرورَ ثَلَاثًا