وكان بعد ذلك الشيخ يوسف العجمي فيما حكى من سيرته يخرج الواحد من أصحابه ويذهب بدابة معه فيسأل النهار كله إلى الليل وما أجتمع يأتي به إلى الفقراء، وبذلك يعيشون، وصورة السؤال أن يقف بباب الدار والحانوت فيقول: الله، ويمد بها صوته حتى يكاد يغشى عليه ويسقط، قالوا: وكانوا يتناوبون في الخروج بينهم وبين الشيخ، يخرج الخارج يوماً لأنفسهم ويوماً للشيخ، فكان الخارج لهم يأتي بالدابة مُوقرة لحماً وخبزاً وجبناً وبصلاً وغير ذلك، وفي يوم الشيخ إنما يأتي بكسيرات يأكلها فقير واحد فقالوا له في ذلك فقال: أنّتم بشريتكم باقية، فبينكم وبين الخلق ارتباط، فيعطونكم، وأنا بشريتي قد فنيت حتى لا تكاد " ترى " فليس بيني وبين التجار والسوقة وأبناء الدنيا كبير مجانسة " قالوا ": وكان يأمر بإغلاق باب الزاوية " طول النهار " لا يفتح لأحد إلاّ للصلاة وإذا دق أحد يقول للنقيب: اذهب وانظر من شق الباب فإن كان معه شيء من الفتوح للفقراء فافتح له، وإلا فهي زيارات فشارات فقال بعض الناس في ذلك، فقال الشيخ: أعز ما عند الفقير وقته، وأعز ما عند أبناء الدنيا مالهم، إن بذلوه لنا بذلنا لهم وقتنا.
وقد شاع اليوم إقامة الصوفية الزوايا بإطعام الطعام، ولا سيما في بلادنا المغربية، وخصوصاً في البوادي، وما يكون من فتوح يأتي إلى يد الشيخ، وهو ينفق فيه على المجاورين والواردين، وهذا قد كان فيهم من قديم، ففي ترجمة الشيخ أبي يعزى أن الناس " كانوا " يأتون إليه من كل بلد، فيطعمهم من عنده، ويعلف دوابهم، وأن الفتوح كانت تأتيه من إخوانه في الله تعالى فينفقها على زائريه وأن أهل القرى القريبة منه كانوا يضيفون الواصلين لزيارة أبي يعزى ويتبركون بهم، فلما مات أبو يعزى رِيءَ في النوم وهو يطير في الهواء فقيل له: بم نلت ما نلت؟ فقال: بإطعام الطعام.
ويحكى عن الشيخ أبي محمد عبد الخالق بن ياسين الدغوغي أنه كان يقول: طلبنا التوفيق زماناً فأخطأناه، فإذا هو في إطعام الطعام وقد اشتهر ذلك اليوم حتى إن عوام البادية يرون ذلك كأنه شرط انتصب للزيارة أو تصدّى للمشيخة، ويعدون قوة ذلك وتيسره من كراماته، ولا يبالون بمن لم يروا ذلك على يده، فوقع في ذلك منافع عظام وآفات جسام.
وأهل الزوايا مختلفون، منهم من يطعم الناس من مال أبيه أو من كد يمينه من غير أن يدخل عليه فتوح أصلاً، فهذا أقرب الناس إلى السلامة وأبعد عن الشبهة، وهو منتفع بحصول الأجر فيما أنفق، وفي سد خلة المحتاج، وفي ترغيب الناس في الخير بما يحصل لهم من الميل الطبيعي، وفي اجتماع أهل الخير عنده، وفي تعاونهم على البر، وتعلم العلم والأدب والمعرفة وتربية الخير، وإحياء مراسم الطريق، وتكثير سواد أهله، وغير ذلك من الوجوه المستحسنة، والمصالح المتبينة، وينتفع الناس معه بما ذكر وبحسن الظن به وبالطريق وبأهلها وبسلامتهم من كل ما يقابل ذلك من الآفات، إن كانت " لا " تأتيه الفتوح فذاك، وإن كانت تأتيه ويردها فلا شك أنها حالة رفيعة، ولكن لا بد أن يحذر آفة الرد كما يحذر آفة الأخذ، ولا سيما في الرد على إخوانه وأتباعه.
ومن الآفات المشاهدة اليوم في ذلك أن الشح عياذاً بالله قد غلب على الناس ولا سيما فيما هو لله خالصاً، إذ لا باعث عليه من النفس، فتجد الفقير يثقل عليه أن يتصدق بدرهم لمسكين محتاج ويتيم وأرملة، ويخف عليه أن يحمل الدينار والدينارين إلى دار شيخه، وذلك إما لبواعث شهوانية كطلب الأعواض العاجلة أو مساعفة الغير أو المراياة أو نحو ذلك، وإما تصريف من الله تعالى وتسخير في هذا الوجه، ثم إن رد عليه شيخه ذلك وأغلق عليه بابه انغلقت عليه أبواب الخير والنفقة، فبأي وجه يرتاض في صفة البخل حتى يتخلى منها؟ " أو " بمجرد الموعظة والتذكير من شيخه من غير أن ينازلها بالفعل؟ وهيهات منه ذلك! وإذا كان كذلك كان شيخه قد غشه في تربيته له ولو أنه قبض منه ذلك وأنفقه له في وجوه الخير كان أعود عليه وأرجى لاعتياده ذلك في جهات أخرى، ولحصول نور ينتفع به، نَعَمِ الأمْرُ مُخْطِر، والناس فيه ثلاثة: رجل طالب دنيا آكلٌ بدينه، يقبض لنفسه شهوة، فهذا فاسد مفسد، وربا أنتفع معه من أنفق لله تعالى " إنَّ اللهَ يُؤَيّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الفّاجِرِ ".