ورجل صادق في حاله، غير كامل في تصرفه، يخشى العطب في الأخذ، ويؤثر جانب السلامة، فهذا سالم في نفسه، ولا ربح معه للناس من هذا الوجه.

ورجل كامل قد تضلع من العلم والحال، فهذا حقه الأخذ لحق الغير نصحاً له وإعانة له على الخير، اللهم إلاّ أن يعرض ما يمنع كاطلاعه على اختلاف قصد المتصدق أو فساد في المال أو نحو ذلك.

وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من أصحابه ما يأتون به من النفقة إعانة لهم على الخير، وتزكية لهم عن الأخلاق المذمومة، ونفعاً للمسلمين بما أنفقوا وإلا فهو صلى الله عليه وسلم أغنى الخلق ظاهراً وباطناً، وقد عرض عليه أن تجعل له الجبال ذهباً يتفق منها فلم يرض، وقد لا يقبل لعوارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر: " هَمَمْتُ ألاَّ أقْبَلَ إلاّ مِنْ قُرَشيّ أو ثَقَفيّ أوْ دَوْسيٍّ " والكامل من المشايخ له مدخل في ذلك.

ومنهم من يطعم من الفتوح أو من الأمرين، فإن استقام أخذه وتصرفه فهو ينتفع بما مر في الأول، وإن كان لا يبلغ في أجر النفقة مبلغ من أنفق في كد يمينه، وعرق جبينه، وبمعاونة الناس على الخير، وإدخال السرور عليهم في الأخذ، وتربية أحوالهم المحمودة، وتزكيتهم من المذمومة، وبالسلامة من الأنفة والاشتهار بالنزاهة المتوقع في الأول، وبتيسر رزقه في خلال ذلك ليتفرغ للعباده، إلى غير ذلك من المنافع الدينية والدنيوية، وينتفع الناس معه بما مر، والمنفقون بذلك مع حصول أجر ما أنفقوا، والتخلي والتحلي كما مرّ، وغير ذلك، ومن سوى هذين الشخصين من كل من يستظهر بالخرقة ويتجر باللقمة فلا عبرة له، وقد ينتقع المنفق كما مر إن سلم من أتباعه على زيغه والسقوط في مهاوي بدعته، وهذا كله في الإطعام والإنفاق جملة.

وأما أكل المريد لطعام شيخه والنزول في مثواه وافتراش فراشه وغير ذلك من الانتفاعات فقد يسلم في ذلك وقد يحصل له انتفاع زيادة على السلامة كحصول بركة ونور في قلبه أو رحمة من الله تعالى بذلك، وقد جاءت امرأة من لكتاوة إلى دار أشياخنا، وأظنه في حياة سيدي أحمد بن إبراهيم بقصد الزيارة فأكلت من طعام الزاوية ثم رجعت إلى بلدها وبقيت أياماً فماتت فريئت بعد موتها فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقالت: رحمني بالطعام الذي أكلت من الزاوية.

وقد يتضرر المريد بذلك من جهات منها أن يتشوف إلى ذلك أو إلى المَزية فيه فيفسد قصده، ويختل حاله، ومنها أن يستشعر شيخه منه أحياناً ثقلاً في ذلك لما يقتضيه الطبع البشري، فينفر منه، وفي ذلك ضرره، وقد تذهب زيارته وخدمته في بطنه، وذلك هو الخسران المبين، ومن ذلك وقع ما ذكر في صدر هذه الترجمة للشيخ أحمد بن يوسف من ترك الإطعام كما قال، وقد يدخل عليه في ذلك من مزاحمة الإخوان والواردين الشغل والفتنة والشحناء والتدابر والتقاطع وغير ذلك.

وقد حدثونا عن شيخ شيوخنا سيدي عبد الله بن حسين الرقي - رضي الله عنه - أنه " كان " إذا ذهب مع الفقراء لزيارة شيخهم سيدي أحمد بن علي يأخذ معه زاداً تحت إبطه فإذا وصلوا إلى زاوية الشيخ انفرد عنهم ودخل المسجد واشتغل بحاله واقتات من زاده فلا جَرَمَ " أن " كان هو الذي أنجح وأفلح.

هذا ولا يخلو شيء من مصالح وآفات، والمعصوم من عصمة الله، والموفق من وفقه الله، والورع من ورعه الله، فلا يمكن الاعتراض على من أكل، ولا من ترك، ولا من أطعم، ولا من ترك، ولا من اشتهر، ولا من اختفى، اللهم إلاّ " على " من كان في تربيته على يده بوجهه، فمن عرف فليتبع، ومن جهل فليسلم، والنصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقية في محلها بشرطها.

وبلغني أن الفقيه الصالح سيدي الصغير ابن المنيار مر ذات مرة بسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي فأخرج إليه الطعام من الزاوية فلم يأكله فبلغ ذلك ابن أبي بكر فذكر ذلك وكأنه اعتل بما يقع من خدمة الناس في الحصاد والدرس، فقال له ابن أبي بكر: أيما أفضل أنت أم جدك؟ يعني سيدي علي بن إبراهيم، وقد جاءه بنو موسى بسبعمائة منجل ليحصدوا، فلما رأى عددهم قال لهم: بخلتمونا يا بني موسى، فقال له سيدي الصغير: جدي أعرف بحاله وأقدر على ما يفعل، وأنا أتصرف بمقتضى حالي أو نحو هذا " من " الكلام.

وقد يكون للولي حال مع الله تعالى فيسأل الناس ويأخذ من الله تعالى لا من الناس، ويتصرف بالله وفي الله، ولا يصح الاعتراض عليه لاستقامته.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015